الأحد، 3 يوليو 2016

ن .............والقلم

ن .............والقلم

بلوغ المرام ...

عبد الرحمن بجاش

22 يونيو  2016

زميل المدرسه الصديق الدمث د . عوض يعيش كتب الي رسالة بدى فيها منبهرا , بمن يستحق ان تنبهر له الاقلام والافئده , وان كنت بعيدا عن رذيلة الحسد , لكنني احسد في حالتين من يجالس او يجلس الى عالم فما بالك بموسوعه , والى ذلك الذي اعلم انه عائد او ذاهب من ا والى مصر .
لقد قضى صاحبي عوض ليلة بحالها مع المسافر الدائم في احشاء الكتب , وفي قلب صنعاء الاستاذ الكبير محمد العرشي , الذي كان لقائي الاول به بدون ان يعلم خرجة الصبح مع الوالد لطف العرشي رحمه الله ووالدي الروحي يحي حسين العرشي , حيث كنت  يومها اسكن في الثلاثة الاشهر الاخيره قبل الاختبارات بيت صاحبي عبد الكريم داعر في القزالي نذاكر لاختبار الاول ثانوي , كنت اشاهد كل صباح الاستاذ محمد خارجا فعرفته من طرف واحد , فيما بعد عرفته مباشرة ولي به علاقة احترام من قبلي لخلق العالم الرفيع , وقلم طالما استقبلته بفرح العاشق للكلمه ايام ما كنت في صحيفة (( الثوره )) , وقارئا سائحا الاحقه من ثلا الى الجند الى يافع الى عدن وابين وما ازال اسافرمعه كل ما لمحت اسمه في بريدي الالكتروني وقد ارسل الي كنز جديد .
قال الدكتور الصديق محمد السروري : جئت من عدن وكلي شجن لكتاب (( بلوغ المرام )) , قلت : لمن ؟ قال : للقاضي حسين بن احمد العرشي وقد حققه الاستاذ محمد بن محمد عبد الله العرشي , قلت : ثم ماذا ؟ - قيل لي ستجده في المكتبه الكائنه في شارع الزراعه (( مكتبة القدسي )) , ذهبت اليها , قال السروري , سالت عن الكتاب او بالاصح المجلد , قيل لي : لم يعد لدينا أي نسخه , هممت بالانصراف , ليقترب مني بهدوء من قال لي : غدا ساضع الكتاب وكتاب آخر , ساضعهما لك هنا , لاعود مساء اليوم الثاني , واجد ما وعدني به الرجل المؤدب , من سالت عنه صاحب المكتبه , فقال لي : هو الاستاذ محمد العرشي !! .
ذلك هو محمد العرشي الذي ان حدثك فيملك اذنيك وقلبك , وان اتصل بك فيسيل جسدك عرقا مما تسمع من جواهر الكلم , واذا كتب فيسافر بك من اقصاها الى اقصاها لا يدري عن امراض التخلف شيئا الا ان له واجبا ان ينشر الكلمه والمعلومه فهما الوحيدتان الكفيلتان با خراجنا من غياهب الجب الى افق الله الرحيم رحمة بنا من هول التخلف اللعين .
كنت قد ذهبت بعد حديثي والسروري الى نفس المكتبه اسال عن رواية د. ابراهيم اسحاق ((صنعاء من الباب الخلفي)) , فلم اجدها والى اللحظه , وقد بحثت عن اسحاق تليفونيا وتعرفت اليه رجلا مؤدبا خلوقا , اشار لي الى مكتبه في الزراعة لم اهتد اليها الى اليوم وكلي شجن وشوق الى الروايه .
شجني الآخر بلغته باتصال صغير الى استاذي وصديقي الكبير محمد العرشي : قلت ضاحكا : وانا ؟ قال : اؤمر , ماذا تريد ؟ قلت اريد ان ابلغ المرام , ضحك , قال : ستبلغه , وفي نفس المكان حيث التقى السروري شوقه , التقيت شجني , وعلى الصفحة الاولى اهداء يليق بعالم , وقد ابحرت سريعا في ((بلوغ المرام ...في شرح مسك الختام فيمن تولى اليمن من ملك وامام)) .
اتمنى من الله ان يطيل في عمر استاذنا الاجل محمد العرشي لينثر في ارواحنا درر الكلمه , ويسافر بنا في بلد ظلمه اهله , بلد فيه ما يجمع اكثر مما يفرق , لكنها السياسة والاهواء !!! .
لزميلي عوض : هل رايت انك لست المنبهر الوحيد , بل ان المنبهرين كثر برجل وكلمه .
لله الامر من قبل ومن بعد .

السبت، 2 يوليو 2016

تاريخ الجنوب العربي (اليمن شـماله وجنوبه)

إخواني وأعزائي القراء في صحفتي في الفيسبوك وبـريدي الإلكتروني ومدونتي (في جوجل) أحببت أن أقدم لكم هذه الصفحات من كتاب (اليمن.. شـمـاله وجنوبه.. تاريخه وعلاقاته الدولية) للمؤلف اللبناني/ محمود كامل المحامي، الذي ألفه في مطلع سبعينيات القرن الماضـي، أي بعد ثورة السادس والعشـرين من سبتمبر المجيد، وتناول أيضاً ثورة 1962م في شـمال الوطن ضد الإمامة، وثورة 1963م في جنوب الوطن ضد الاستعمار البريطاني.. فإلى هذه الصفحات:-

إعداد: محمد محمد عبدالله العرشي

تاريخ الجنوب العربي
(اليمن شـماله وجنوبه)
 

والمقصود بالجنوب العربي في هذا الكتاب هي المنطقة الجغرافية الواقعة في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية والتي تشمل أراضي حضرموت والمهرة المتاخمة لسلطنة عُمان شرقاً وعدن حتى باب المندب غرباً بامتداد ساحل المحيط الهندي جنوباً، وهو ما يعرف الآن بإسم "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، كما تشمل كل أراضي "الجمهورية العربية اليمنية" التي تحدَّها المملكة العربية السعودية من الشمال والشرق ويحدها البحر الأحمر بامتداد الطرف الجنوبي من ساحله الشرقي حتى باب المندب. وهي منطقة جغرافية تبلغ مساحتها نحو مائتين واثنين وأربعين ألفاً من الأميال المربعة ويبلغ عدد سكانها نحو ستة ملايين نسمة.
وهذه المنطقة الجغرافية العربية التي تضم – الآن – دولتين عربيتين تنتميان إلى عضوية الأمم المتحدة، وإلى عضوية جامعة الدول العربية وهما الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية اليمن الجنوبية التي تضم أربع دويلات أو وحدات سياسية كانت ترتبط مع المملكة المتحدة بمعاهدات صداقة أو حماية أو مشورة أو بها جميعاً وهي سلطنة القعيطي، وسلطة الكثيري، وسلطنة المهرة في التقسيم الذي كان يطلق عليه اسم "محمية عدن الشرقية"، وسلطنة يافع العليا في التقسيم الذي كان يعرف باسم "محمية عدن الغربية"، كما تضم ما كان يطلق عليه اسم "اتحاد الجنوب العربي" الذي كان حتى أول ديسمبر (كانون الأول) 1967م يتكون من سبع عشرة دويلة أو وحدة سياسية كانت مرتبطة هي الأخرى مع المملكة المتحدة بمعاهدات صداقة أو حماية أو مشورة أو بها جميعاً وهي إمارتا بيحان والضالع، وسلطنات لحج والعوذلي والفضلي ويافع السفلى والعوالق العليا والعوالق السفلى والواحدي والحوشبي، ومشيخات العوالق العليا والعقربي وشعيب والعلوي والمفلحي وجمهورية دثينة، ومستعمرة عدن، وكانت هذه المجموعة من الدويلات أو الوحدات السياسية جزءاً من المنطقة الجغرافية – موضوع هذا الكتاب – منذ فجر التاريخ تجمع بين أهلها وحدة العرق ووحدة اللغة ووحدة الأصل القبلي إلى جانب الوحدة السياسية منذ حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. وإن كانت هذه الوحدة السياسية قد امتدت أحياناً فشملت كل هذه المنطقة الجغرافية وتعدتها شرقاً فغطت أجزاء من سلطنة عمان وشمالاً فغطت أخرى من العسير والتخوم التي تقع في جنوب العربية السعودية ثم إنها في بعض العهود شـملت الحجاز وجنوب فلسطين. كما ثبت من بعض النقوش المعينية التي تعود إلى القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد. وتجاوزت البحر الأحمر فضمت منطقة أكسوم بالحبشة في نهاية القرن الخامس أو بدء القرن الرابع قبل الميلاد. بل إن بعض المتوفرين على الدراسات الخاصة بالجنوب العربي يذهبون إلى أن الأحباش ساميون عرب هاجروا إلى أفريقيا، وأن القلم الحبشي القديم الذي يمثل أقدم نماذج الكتابات الحبشية قد استخدم القلم السبئي القديم، أي قلم الجنوب العربي القديم كما تثبت النقوش التي عثر عليها في منطقتي "يها" و"إكسوم" بالحبشة والتي تعود إلى القرنين الرابع والخامس الميلاديين.
وقد صمدت هذه الوحدة السياسية لعدة غزواتٍ خارجية، فصمدت لغزو الرومان في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وصمدت لغزو مملكة اكسوم الحبشية في القرن الرابع الميلادي، ثم لغزو حبشي آخر في مستهل القرن السادس ولغزو فارس في هذا القرن، ولكن عراقة تاريخ الجنوب العربي وصلابة المقاومة لتلك الموجات المتلاحقة من الغزوات حملتا الأحباش الغزاة على أن يعهدوا إلى رجلٍ حميري، أي من صميم الجنوب العربي، بحكم هذا الجنوب في النصف الأول من القرن السادس، كما حملتا الإمبراطور "جستينيانس" الروماني (527 – 565) على أن يرجو ذلك الحاكم الحميري وهو "السميفع اشوع" أن يقر تعيين شخص معين رئيساً على "مدين" أي "معد" في شمال الجزيرة العربية. مما فسره المتوفرون على دراسات الجنوب العربي بأنه شكلٌ من أشكال خضوع أرض "معد" – وهي تقع في جنوب فلسطين – للوحدة السياسية التي كانت قائمة في الجنوب العربي.
فالجنوب العربي في هذا الكتاب لا يشمل الحدود التي تواضع المؤرخون العرب المسلمون على أن يضعوها لليمن بمدلوله التاريخي. أي أن البحر محيط بأرض اليمن من المشرق إلى الجنوب ثم راجعاً إلى الغرب يفصل بينها وبين باقي جزيرة العرب خط يأخذ من بحر الهند إلى بحر اليمن عرضاً في البرية من المشرق إلى المغرب.
كما قرر ياقوت الحموي (ت 1229).. "وهذا الجنوب العربي لا يشمل الرقعة الجغرافية لليمن القديمة التي حددها "جليسر Glaser" – المستشرق النمساوي الذي قام بعدة رحلات علمية إلى اليمن ونشر كتابات حميرية قديمة كشف بها عن ملوك التبابعة وملوك الحبشة الذين استولوا على اليمن – بأنها تمتد من عسير إلى المحيط الهندي ومن البحر الأحمر إلى الخليج".
واليمن – في هذا الكتاب – لا تشمل ما قرره الأصمعي (ت 831) من أن "حدها بين عُمان إلى نجران ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عُمان فينقطع من بينونة، وبينونة بين عُمان والبحرين، وليست بينونة من اليمن، وقيل: حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعُمان إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود واليمن تجمع ذلك كله".
كما أن اليمن – بالمعنى الذي كان يقصده المؤرخون العرب – في هذا الكتاب – ليست كما عبر عن ذلك أحد أئمة أولئك المؤرخين توفي عام 956 بالأسلوب الجغرافي المعهود في ذلك الحين: "حده مما يلي مكة إلى الموضع المعروف بطلحة الملك سبع مراحل، ومن صنعاء إلى عدن – وهو آخر عمل اليمن – تسع مراحل، والمرحلة من خمسة فراسخ إلى ستة، والحد الثاني من وادي وحا إلى ما بين مفاوز حضرموت وعُمان عشرون مرحلة، ويلي الوجه الثالث بحر اليمن على ما ذكرناه أنه بحر القلزم – أي البحر الأحمر – والصين والهند. فجميع ذلك عشرون مرحلة في ست عشرة مرحلة".
فهذا الكتاب – لكي تتضح معالمه ويتحدد مداه وحتى لا يتشعب البحث ويتفرق في ضباب الحدود الجغرافية الغامضة التي اعتاد بعض المتوفرين على دراسات الجنوب العربي أن يهيموا في تيهها – لا تشمل ما يطلق عليه اسم "العربية السعيدة Arabia Jelix".. فهو تعبير أطلقه اليونان والرومان على الجنوب العربي يتفق مع الناحية السياسية التي كانت عليها شبه الجزيرة العربية في القرن الأول الميلادي. وكانت "العربية السعيدة" مستقلة في ذلك العهد بخلاف "العربية الصخرية Arabia Petraea" التي وقعت فيما بعد تحت نفوذهم ، و"العربية الصحراوية Arabia Deserta" وهي البادية إلى الفرات. ولم يستطع الباحثون التكهن بالوقت الذي اصطلح فيه على هذا التقسيم، فإن "هيرودوتس Herodotus" (484 – 425 ق.م) لم يذكره ولكن "سترابون Strabon" (63 ق.م – 19م) ذكره ولذلك ذهبوا إلى أن ظهر في الفترة بينهما.. وكانت "العربية السعيدة" – عند اليونان والرومان – تشمل كل ما يقال له شبه جزيرة العرب، وليس لها حدود شمالية ثابتة ويمكن القول بأنها تبدأ عند أكثر كتَّابهم من نقطة على مقربة من مدينة السويس الحالية.

أهمية الكتاب من وجهة النظر "الأثنوجرافية"

وتبدو أهمية كل محاولة لاستكمال الدراسات الخاصة بالجنوب العربي إذا تبينا الغموض الذي يكتنف الآراء "الاثنوجرافية" المختلفة عن العرب، أي الآراء الخاصة بوصف سلالات الجنس العربي وأصولها ومميزاتها وتفرقها، فالمراجع العربية التي تؤرخ للفترة السابقة على ظهور الإسلام بالنسبة للجنوب العربي محدودة وهي تكاد تجمع على الاستناد إلى روايات متناقلة تدور حول ثنائية الأصل العربي. فللعرب عندهم جدان هما "قحطان" و"عدنان". والأول هو الحفيد من الطبقة الرابعة لسام بن نوح. وإلى هذا الجد ينسبون عرب الجنوب، فقحطان هو أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم العربية لإعرابه عن المعاني وإبانته عنها. وقد أجمع عقبوا على هذا الاتجاه في التاريخ العربي القديم على أن رواته إنما نقلوا عن النسب الوارد في التوراة. ولم يستطع الباحثون المحدثون أن يؤكدوا أن انتساب عرب الجنوب إلى "قحطان" كان معروفاً في الجاهلية. إذ لم يشر إلى ذلك القرآن الكريم كما أنه لم يرد له ذكر في الكتابات الجاهلية. أما بالنسبة للجد الأكبر الآخر وهو "عدنان" فقد ذهب أولئك الناسبون العرب إلى أن "قحطان" – وهو الحفيد من الطبقة الرابعة لسام بن نوح – أخو "فالغ" الذي يتساوى معه بذلك في نفس طبقة انتسابه إلى سام. وأن "فالغ" هو الجد من الطبقة السادسة العليا لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. كما أن إسـماعيل هو جد "عدنان" الجد الأعلى للعرب العدنانيين أي عرب الشمال، وعلى ضوء هذه السلسلة في ربط كل من قحطان وعدنان بالأصل المشترك "سام" يتضح أن "قحطان" أقرب إلى سام من "عدنان". ومما لفت النظر عند استعراض هذا الاتجاه في كتب المؤرخين العرب أنه بينما ذكرت التوراة "قحطان" وحددت الطبقة التي تربطه بجده "سام" فإنها لم تشر إلى "عدنان". كما أن أولئك المؤرخين العرب لم يتفقوا على عدد الطبقات التي تربط "عدنان" بجده الأعلى "إسـماعيل". فذهب البعض إلى أنها ثماني طبقات، وروي عن عروة بن الزبير أنه قال "ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسـماعيل"، كما روي عن ابن عباس أنه قال "بين عدنان وإسـماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون".. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال "إنـما ننتسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا ندري ما هو".
وذهب آخرون إلى أنها تسع وثلاثون طبقة. وهو خلاف لم ينشب بشأن نسب قحطان ولذلك رأى المؤرخون العرب من الحكمة الانتهاء إلى معد بن عدنان ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسـماعيل بن إبراهيم، وقد استندوا إلى حديث للنبي (صلى الله عليه وسلم) قال فيه: "كذب النسابون" وأمر أن ينسب إلى معد ونهى أن يتجاوز بالنسب إلى ما فوق ذلك لعلمه بما مضى من الاعصار الخالية والأمم الفانية". وقد روى ابن عباس أن النبي قال "كذب النسابون" مرتين أو ثلاثاً عندما بلغ النسب إلى عدنان، آمراً بأن يتوقف الانتساب إلى الجد الأعلى عند معد الذي يجمع النسابون على أنه ابن عدنان. ويلاحظ هنا – على ضوء الآية القرآنية التي نزلت في المدينة مقر الأنصار الذين ينتمون إلى أصل يمني أو عربي جنوبي والتي تصف إبراهيم عليه السلام باسم "أبيكم إبراهيم" في معرض مخاطبتها للعرب – أن المفسرين قد حاولوا التوفيق بين الآية ورأي أصحاب النسب بعدِّ إبراهيم أباً للعرب أجمعين. لأن القحطانيين – كما رأينا – لا يربطون نسبهم بإبراهيم الذي هو الحفيد من الطبقة السادسة لفالغ وإنـما يربطون هذا النسب مباشرةً بقحطان أخي فالغ، وقحطان هو الحفيد من الطبقة الرابعة فقط لسام ورأس فرع آخر من سلالة سام، غير الفرع الذي ينتسب إليه إبراهيم، أي أنهم يربطون هذا النسب بمن هو أقدم عهداً من إبراهيم وهو قحطان لأن إبراهيم هو الحفيد من الطبقة الخامسة لفالغ أخي قحطان.
وقد اهتم المستشرقون بهذا الاتجاه في التاريخ العربي إلى رد أصل العرب إلى جدين، أحدهما جد لعرب جنوب شبه الجزيرة العربية والآخر جد لعرب الشمال. فقد قرر أحدهم في بحثٍ حديث أن عدداً من المشكلات الشديدة بشأن الدراسة "الاثنوجرافية" لشبه الجزيرة العربية لا يزال ينتظر الحل. من هم سكانها الأولون؟ هل نبتوا من الأرض أم قدموا من الخارج؟ وإذا كانوا قد هاجروا إليها من الخارج فما هو موطنهم الأصلي؟ كيف كان المحيط الذي عاشوا فيه؟ وهل يختلف كثيراً عن الجزيرة العربية اليوم؟ ما هي العناصر الدخيلة التي امتزجت بالسكان الأولين على مر الزمن؟ ومن هم أول قوم جديرين باسم العرب ومن أين قدموا؟ وقد استطرد فقرر أنه وإن كان هناك قدر من التقدم في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة وما يماثلها إلا أن قدراً أكبر بكثير من الجهد يجب أن يبذل قبل أن تتسم الآراء بسمة الحقيقة التاريخية. فالحاجة ماسة إلى الإضافة إلى ما نعرفه عن طبقات أرض شبه الجزيرة وجغرافيتها وكثيرٍ من المناطق الأثرية التاريخية في حاجة إلى أن تنقب كما أنه من الواجب أن يجري بحث شامل لمختلف طوائف السكان الحاليين وتاريخهم.. ومشكلة التحقق من أصل العرب متشابكة بشكلٍ معقد مع المشكلة الأكبر وهي التحقق من أصل الساميين والموطن الأول للأقوام الذين يتكلمون لغات تنتمي إلى الأسرة التي تنتمي إليها اللغة العربية. ويكفي القول بأن اليمن قد تضم أقل مجموعة عرقية كبيرة تعرضاً للتجريح في أية جهة من جهات العالم وهي المجموعة التي يطلق عليها علماء "الانثروبولوجي" المتوفرون على الدراسات الخاصة بوصف الإنسان اسم "الجنس الأبيض المتوسط". أما بشأن المراجع العربية التي تعرضت لتاريخ العهود السابقة على الإسلام فقد أشار إلى أنه يجب الاحتياط بشأنها وأن يقر في أذهاننا أن معظم المصادر الحالية لم تسجل بعد انقضاء عهد طويل على العهد الذي تؤرخه فحسب ولكنها سجلت أيضاً في الفترة اللاحقة لظهور الإسلام بوسائله الجديدة في النظر إلى ظواهر الحياة مما يفتح باب التساؤل عن مدى الأصالة الكاملة لهذه المصادر. ولما استعرض الفكرة التقليدية العربية بشأن ثنائية الأصل، وهي الفكرة التي تجعل "قحطان" جد العرب العاربة و"عدنان" جد العرب المستعربة، أشار إلى ما قرره فيما بعد المفكر العربي ابن حزم (ت 1064) من أنه ما من أحد على وجه الأرض يمكن أن يثبت على وجه التحقيق انتسابه إلى أصل دون آخر. ومع ذلك فإن الفكرة التقليدية العربية تتجه إلى أن "سبأ" قد قدم من الشمال إلى اليمن رغم أن النسابين العرب يقررون أن سبأ هو جد "قحطان" وأن سبأ هو والد "حمير" و"كهلان" وهما لقبا الفرعين الرئيسيين للعرب الجنوبيين. وقد ظهرت أهمية هذا التأصيل للنسب بين عرب الجنوب وعرب الشمال بعد ظهور الإسلام. فإن شعوب دول الجنوب العربي القديمة التي سوف تكون بين موضوعات هذا الكتاب كالسبئيين والمعينيين وغيرهم عدوا من سلالة حمير وبذلك أصبح التعبير بـ"حمير" تعبيراً شاملاً لحضارة تلك الدول، أما سلالة "كهلان" فقد لعب فريق قليل منهم دوراً هاماً في الفترة اللاحقة لظهور الإسلام بعد أن انتقل موطنهم إلى الشمال ومن بينهم "طي" و"مذحج" و"همدان" و"الأزد". ومن فروع "الأزد" قبيلتا "الأوس" و"الخزرج" القاطنتان في المدينة اللتان اشتهرتا بأنهما من "أنصار" النبي عليه السلام. أما "لخم" و"غسان" و"كندة" وغيرها من القبائل التي تنتسب إلى "كهلان" فكانت قد استقرت – عند أصحاب هذا الرأي – في الشمال قبل ظهور الإسلام. وبذلك فإنه لو وضعت خريطة قبلية للجزيرة العربية في القرن السادس ومستهل القرن السابع لكشفت عن قطعة عجيبة من الجغرافيا البشرية. إذ تضع كثيراً من العرب الذي ينتمون أصلاً إلى الشمال. ولهذا الرأي الذي يذهب إلى أن اللخميين والغساسنة وكندة من عرب الجنوب الذين هاجروا إلى الشمال معارضون. وسوف نعود إلى ذلك في المكان المخصص له طبقاً للتسلسل التاريخي.

---

المصادر والمراجع التي رجع فيها الكتاب: تاريخ العرب قبل الإسلام/ لجواد علي – مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع/ لصفي الدين عبدالمؤمن البغدادي – مختصر معجم البلدان/ لياقوت الحموي – اليمن وحضارة العرب/ لعدنان ترسيسي – مروج الذهب ومعادن الجوهر/ لعلي بن الحسين المسعودي – سيرة النبي (صلعم)/ لمحمد عبدالملك بن هشام – The Encyclopedia of Islam\ Rents.

الاثنين، 6 يونيو 2016

إسرائيل المزعومة أدولة هي أم كلب صيد؟؟

إسرائيل المزعومة
أدولة هي أم كلب صيد؟؟

إعداد الأستاذ/ محمد محمد عبدالله العرشي
المقدمة:
أخي القارئ الكريم... يسرني في هذا العدد من صحيفة الثورة الغراء أن يكون مقالي عن سرطان هذا العصر الموجود في جسد أمتنا العربية، والذي زرعته القوى الاستعمارية الغربية في زمن تفرق وشتات الدولة العربية، وظل هذا الداء والسرطان ينخر وينخر في وطننا العربي بمختلف دوله وأقطاره..
وقد شدني مقالٌ للقاضي المرحوم أحمد محمد مُداعس تحت عنوان (إسرائيل المزعومة.. أدولةٌ هي أم كلب صيد؟؟) كنت قد نشرته في كتابي (من بواكير حركة التنوير في اليمن.. المجموعة الأدبية والصحفية للقاضي أحمد محمد مُداعس)والذي شارك في إعداد بعض مواضيع القاضي العلامة/ محمد بن إسماعيل العمراني – أطال الله عمره.. هذا المقال من المقالات التي كتبها القاضي أحمد في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ولم أجده عند إعدادي وتحقيقي لكتاب (من بواكير حركة التنوير في اليمن) في المقالات الصحفية التي نشرت قبل الثورة أو من بين المجموعة التي قام بمراجعتها القاضي محمد إسماعيل العمراني أو في المقالات التي أذيعت في إذاعة صنعاء وإنما وجدناه من بين الأوراق الخاصة بالقاضي أحمد مُداعس. ولا شك أن هذا المقال قد لخص شرعية وكيان دولة إسرائيل في عنوان المقال حيث شبهها بكلب صيد، ومن خلال تتبع ما قامت به دولة إسرائيل منذ قيامها في عام 1948م إلى الآن في قلب العالم العربي وفلسطين المحتلة، ستجد أنها تقوم نيابة عن التحالف الأوروبي الأمريكي والذي يتمثل في كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا والعديد من الدول الأوروبية المتحالفة مع أمريكا وإسرائيل في تحقيق العديد من المهام الاستراتيجية والتي تتمثل بما يلي:
1. الحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية.
2. تكريس التخلف والفقر في الدول العربية من خلال خلق الصـراعات والتمردات للحيلولة دون استكمال مهام التنمية وتحقيق الديمقراطية.
3. إستنزاف الثروات العربية والعمل على إنفاقها على التسليح، والعمل على بذر الشقاق والخلاف بين الأنظمة العربية.
4. مساعدة أمريكا وبريطانيا في تنفيذ مخططاتهما في المنطقة العربية، ولا يخفى على القارئ الكريم ما قامت به إسرائيل من أعمال إستراتيجية في مساعدة الحلفاء في حصار العراق والمساعدة في إحتلاله.
5. ما قامت به إسرائيل في النصف الأخير من عام 2006م من الإعتداء على لبنان وضرب كل مقوماته الإقتصادية وتخريب مدنه وقراه وقتل أطفاله وشيوخه وبدعم مباشر وواضح وفعلي من أمريكا وبريطانيا.
6. إصطفاف بريطانيا مع أمريكا بصورة مباشرة ومكشوفة وإعلانهما تأييدهما لإسرائيل في حرب لبنان والحيلولة دون صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار على لبنان، أليس هذا يؤكد ما ذهب إليه الأديب القاضي العلامة أحمد محمد مُداعس في هذا المقال قبل خمسين عاماً.
كلب صيد يوجهه الصياد على الفريسة المطلوبة
بدأ أديبنا وقاضينا المرحوم/ أحمد محمد مداعس مقاله بأسطر تكتب بماء الذهب، فقد ذهب إلى أنه من الإستحالة بمكان أن يكون في الوطن العربي أي سلامٍ أو أمنٍ أو استقرار ما دام هنالك وجود كيان مشهور بكل الصفات اللأخلاقية التي يشتهر بها علناً أمام العالم وهي ما تفقده أي شرعية مزعومة تمنحه إياها الدول الإستعمارية، فيقول: "من العسير بل من المستحيل أن تلوح بارقة من أملٍ لاستقرار الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط مادام هناك شيء واحد يهدد الأمن وينسف السلام في المنطقة بوجوده اللاشرعي وهو ما يُسمى في عالم المنكرات بـ (إسرائيل) ذلك لأن اليهود وقد عُرفوا بمكرهم وخداعهم الطبيعي لم ينسجموا أو لم يلتئموا حتى مع أنبيائهم وكتبهم المنزلة. كيف وقد غلبت على طباعهم الشريرة نزعة العقوق والتمرد وطبعت نفوسهم السوداء بطابع الحقد والرذيلة؟؟ إن هؤلاء القوم في كل زمان ومكان لا يمكن القول بأنهم من النوع الإنساني البشري الصالح للبقاء والاستمرار كدولة ذات سيادة لها كيانٌ ولها عواملٌ ومقومات تكفل لها البقاء المتطلب لإثبات الدول. لماذا؟ لأن (عناصر التكوين الدولي) مفقودة تماماً في إسرائيل فالأخلاق مثلاً وهي أهم مقومات الأمم في تدعيم كيانها ووجودها، الأخلاق تكاد لا تحتل من النفسية اليهودية إلا ما تحتله خانة الصفر من جهة اليسار، والدليل على هذا بارز وواضح كل الوضوح، ولنتناول أولاً النفسية اليهودية بالدرس والتحليل من جهة (الإيمان) فإسرائيل لا يجد الإيمان إلى قلوب أبنائها سبيلاً، ولا أقول هذا تجنياً على إسرائيل ولا إفتراءً عليها، فالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي نسمعه كل يوم وتتردد أصداؤه في كل أرجاء الدنيا لا من إذاعات العالم العربي والإسلامي فحسب، بل من إذاعة إسرائيل نفسها، هذا الكتاب المبين يقول ويالروعة ما يقول ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ "آية 78 سورة المائدة"، وقوله تعالى﴿فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ "آية 89 سورة البقرة"، فكلمة (كفروا) المتكررة في الآيتين الكريمتين وفي غيرهما من الآيات تصرحان بأن النفسية اليهودية غير قابلة للإيمان، والمنطق يقول أن عدو المؤمن عديم الإيمان وهذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.."
إسرائيل أخلاقياً
وفي سياق مقال القاضي المرحوم أحمد محمد مداعس، ومن أجل تعرية إسرائيل وتوضيح إنعدام الأخلاق في مكوناتها ومجتمعاتها، تطرق إلى الجانب الأخلاقي لها عبر التاريخ، فقال: "ثم لنتناول النفسية اليهودية من ناحية أخرى من نواحي الأخلاق (الوفاء بالعهد) فأعمال اليهود التي نتصفحها عبر التاريخ وتصرفاتهم الشاذة الرعناء مع سائر الأمم مليئة بالخيانة والمكر ونقض المواثيق، وما مواقفهم الشهيرة مع موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا صورة واضحة لمواقفهم النكراء مع جميع الناس في كل زمان ومكان، مرة ثانية إلى القران الكريم ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ آية 13 سورة المائدة، ولنفحص الآن النفسية اليهودية من ناحية ( التجرد عن الأنانية ونكران الذات) وهما عاملان من أهم عوامل الأخلاق فاليهود يدعون زوراً وبهتاناً أنهم فوق سائر الأمم رفعةً وامتيازاً وأنهم (شعب الله المختار) وإلى هذه النزعة الإنسانية المقيتة تشير الآية الكريمة بقوله تعالى ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ آية 18 سورة المائدة، ثم لنأت إلى هذه النفسية الشريرة ندرسها من ناحية (الشجاعة والإقدام) وهاتان الصفتان في مقدمة الأخلاق الحميدة إذا ما استخدمتا في سبيل الحق، وليس أدق تعبيراً وأصدق تمثيلاً لهذه النفس المليئة بالذل والخور من قوله تعالى﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ آية 61 سورة البقرة، وأخيراً وليس أخراً لنسلط الأضواء على النفسية اللأخلاقية من ناحية الانقياد والطاعة وعدم التردد والإحجام وهذه صفات كلها من أنبل صفات الأخلاق، فاليهود بتمردهم وعقوقهم وإحجامهم وترددهم أشهر من نار على علم في هذا المجال، وما حوارهم مع موسى عليه السلام وعدم إنصياعهم للأوامر حتى ولو نزلت هذه الأوامر من السماء بصورة ناصعة لهذه النفسية الشريرة ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ آية 21 سورة المائدة، ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ آية 22 سورة المائدة، ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ آية 24 سورة المائدة، صدق الله العظيم."
ثم يوجه المرحوم القاضي الخطاب إلى العرب والمسلمين بعد أن سرد كل الحقائق السابقة المثبتة بما ذكر في كتاب الله الكريم (القرآن الكريم)، وكذا بالأحداث التاريخية المؤيدة لذلك، فيقول: "بل أيها العربي والمسلم الصحيح هل يمكن أن تقوم لشخصٍ ما قائمة إذا ما أصيب بشيءٍ من بعض هذه الصفات الدنيئة؟ فما بالك بأمة بأسرها حشرت فيها كل هذه الصفات فهل يجوز القول بإمكان وجود عناصر (التكوين الدولي) في أمة هذا شأنها، وهذا شاعر الأخلاق العربي يقول:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

"من قصيدة للشاعر الكبير/أحمد شوقي"
ألم تجزم معي بأن إسرائيل ليست إلا كلب صيد في يد الاستعمار، وإسرائيل ذاهبة لا محالة وخاصة إذا ما أضيفت إلى مخازيها مأساة مليون لاجئ عربي أخرجتهم إسرائيل من ديارهم لا بحولها ولا بقوتها ولكن بقوة الباطل الذي سلطه الاستعمار وشهره في وجه الأمة العربية؟؟ ولك أن تقول يا أخي ( ولكن الواقع أن إسرائيل كائنة فعلاً في أرض فلسطين العربية ) وجوابي عليك بل جواب الحقيقة هو أن وجود هذه العصابة المغتصبة ما كان إلا نتيجة عوامل شريرة وظروف قاسية تكاتفت فيها قوى الاستعمار مع الرجعية العربية ومع تفكك العرب واختلافهم ونزاعاتهم المتفاقمة في الماضي البغيض بسبب رضوخ بعض الرؤساء والملوك العرب لسلطة الاستعمار انذاك فكونت هذه العوامل وتلك الظروف عواصف هوجاء وزوابع قائمة على أرض فلسطين العربية وحملت في طياتها من قمامات الأرض وميكروباتها ما يسمونه في دنيا الأباطيل(إسرائيل) ولكن وللباطل صولة ثم يضمحل، ومهما حرض الاستعمار ومن يدورون في فلكه على تبني إسرائيل وتدعيمها لإحباط المد التحرري العربي ومهما ظهرت إسرائيل بمظهر القوة والعظمة المصطنعة ومهما تشدقت إسرائيل بهذه القوة والمنعة وتدفق عليها من سيل الأسلحة الفتاكة على اختلاف أنواعها فإن اليد التي تحمل هذا السلاح لا تصلح لاستعمال السلاح بدليل ما أسلفنا من الحجج الناصعة التي تثبت أن الجنس اليهودي الذي ضربت عليه الذلة والمسكنة والذي بآء بغضب من الله ورسوله وحلت عليه اللعنة إلى يوم القيامة لا يصلح إلا أن يكون ضحية للسلاح لا ليحمل السلاح، هذا إذا ما دعمنا ذلك بدليل أوضح وعامل أقوى ألا وهو تكاتف العرب وتجمعهم ونبذ الخلافات والحزازات والأحقاد والمطامع فيما بينهم خاصة في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها الكفاح العربي ويواجه الطعنات من داخل البلاد العربية وخارجها، وهذا مابَدَأَ ولله الحمد يلوح سناه في الأفق البعيد الذي يعيش على ربوعه مائة مليون عربي من المحيط إلى الخليج بعد قيام الثورات التحررية المتوالية في كثير من أجزاء العالم العربي فلنتكاتف ولنتضامن ولنطهر صفوفنا من أدران العملاء الخونة ثم لننتظر الغد الموعود مع إسرائيل وأنصار إسرائيل وإن غداً لناظره قريب."
تلاحظ أخي القارئ الكريم أن المرحوم القاضي أحمد محمد مداعس قد أنهى مقاله المكتوب في خمسينيات القرن العشرين، أنهاه بالتفاؤل والجزم أن دول الإستعمار الغربي ومعها كلب الصيد إسرائيل ومهما تعاظمت قوتها وسلاحها، فإن الوعي العربي الموحد قادر على التغلب عليها بل والقضاء عليها إلى غير رجعة.
والمطلع والمعايش لأوضاع دولنا العربية اليوم، يلاحظ بل ويتأكد أن التاريخ يعيد نفسه بأحداثه، فمخططات تقسيم العرب والمسلمين وإضعافهم، ولكن بطرق أخرى يكون فيها السبب والمتضرر هو المواطن العربي والوطن العربي لا غير، وقد أثبتت الأيام أن مخابرات الدول الغربية أمريكا وحلفاءها هم من يديرون أعمال تخريب وتفكيك الدول العربية، فبدأوها في العراق ثم مصر ثم سوريا ولبنان، وهاهم اليوم في بلدنا الغالي اليمن.. فتهجرت الملايين من سوريا والعراق وليبيا، وغيرها من الدول العربية.. ولا يخفى تدخل إسرائيل العسكري في سوريا علناً، وفي دول أخرى لم تعلن عنها بعد. فاليقظة اليقظة أيها الأخوان العرب والمسلمون فإن الأعداء متربصون بنا الدوائر.
alarachi2012@yahoo.com

محافظة ريمة

الثروات والكنوز الحضارية والمدن التاريخية في محافظة ريمة
محافظة ريمة
أول موطن للإنسان اليمني

إعداد/ محمد محمد عبدالله العرشي
المقدمة:
أخي القارئ الكريم... يسرني أن أقدم لك في هذا المقال، الثروات والكنوز الحضارية في محافظة ريمة (الحلقة الأولى)، وكنت متهيباً أن أكتب عن الثروات
والكنوز الحضارية في هذه المحافظة حتى هيأ الله لي الإتصال بالأستاذ/ حيدر علي ناجي – من أبناء محافظة ريمة، فشجعني أن أكتب عن محافظة ريمة ومديرياتها، وقد أمدني بكثير من المعلومات عن ريمة ومديرياتها – جزاه الله عن اليمن وعن محافظة ريمة خيراً.
وقد عودت القارئ الكريم أن أكتب عن علمٍ شامخٍ من أبناء المحافظة، وقد اخترت لهذه الحلقة علماً هو الإمام جمال الدين بن عبدالله الريمي المولود في مدينة تعز سنة 710هـ أي بداية القرن الثامن الهجري، والمتوفى سنة 792هـ، وأشهر مؤلفاته في الفقه المقارن هو كتاب (المعاني البديعة في معرفة إختلاف أهل الشريعة) وهو مكون من مجلدين،  الذي قام بتحقيقه الدكتور/ محمد عبدالواحد الشجاع أستاذ الفقه المقارن في قسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب في جامعة صنعاء.
محافظة ريمة
ريمة بفتح الراء وسكون الياء وفتح الميم ثم تاء التأنيت المربوطة. وريمة اسم مشترك لعدد من المواضع في اليمن وهي: ريمة المناخي في العدين محافظة إب، ريمة حميد في سنحان محافظة صنعاء، وريمة اسم جبل في بني قيس من محافظة حجة.
تقع المحافظة إلى الجنوب الغربي من العاصمة صنعاء. يحدها من الشمال محافظتا: صنعاء والحديدة، ومن الجنوب محافظة ذمار، ومن الشرق ذمار، ومن الغرب محافظة الحديدة.
تبلغ مساحة المحافظة 1926كم2، عاصمة المحافظة مديرية (الجبين)، تضم  المحافظة (710) قرية تشكل بمجموعها (89) عزلة وهذه العزل تكون من (6) مديريات هي: بلاد الطعام، الجعفرية، كسمة، الجبين، السلفية، مزهر. بلغ عدد سكان المحافظة (291.533) نسمة حسب التعداد العام للسكان والمساكن للعام 2004م.
ريمة: بفتح فسكون. منطقة جبلية واسعة تشمل جبال الجبي والسلفية والجعفرية وكسمة وبلاد الطعام. ويبلغ متوسط ارتفاعها 2800م عن سطح البحر. وتقع محافظة ريمه وسط سلسلة الجبال الغربية بين درجتي (14.36ْ – 14.88ْ) شمالاً وبين درجتي (43.50ْ-44ْ) شرقاً، وهي متصلة ببلاد وصاب وأطراف جبل بُرع وتشرف من جهة الغرب على المنصورية وبيت الفقيه من تهامة. ويقال لها (ريمة الأشابط) نسبة إلى القبيلة التي استوطنتها، وأحياناً (رمية جبلان) نسبة إلى جُبلان بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عُريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير. وريمة الأشابط من أشهر جبال اليمن خصوبةً وغزارةً للمياه ولذلك عرف في التاريخ الحميري باسم (جؤجؤ اليمن) أي السكاب باللغة الدارجة، وأكثر مزروعاته البن والحبوب وفواكه المانجو والعنبة (الباباي) والموز.
ومن أودية ريمة: وادي علوجة ويسقي أراضي الزرانيق، ووادي كلابة يسقي أراضي المنصورية، ووادي جاحف الذي يصب في وادي سهام.
وتعد محافظة ريمة إحدى المحافظات اليمنية التي تم استحداثها مؤخراً خلال العام2004م، وتبعد عن العاصمة صنعاء بحدود (200) كيلو متراً، ويشكل سكان المحافظة ما نسبته (1.05%) من إجمالي سكان الجمهورية، وتقسم إداريا إلي (6) مديريات، ومدينة الجبين مركز المحافظة. وتتميز محافظة ريمة بطبيعة وعرة وجبال شاهقة في الارتفاع، ومن أهم مدنها السخنة، مدينة الطعام وبلاد الشرق. وتُعد الزراعة من أبرز الأنشطة التي يمارسها سكان هذه المحافظة الواعدة، حيث يزرع فيها العديد من الخضروات والفواكه والحبوب والبن، فضلاً عن الاهتمام بتربية الحيوانات والنحل وإنتاج العسل. ويتميز مناخ المحافظة بالبرودة في فصل الشتاء والاعتدال في فصل الصيف. وتبعد عن العاصمة صنعاء بحوالي (200) كيلو متراً وتتصل المحافظة بمحافظة صنعاء وجزء من محافظة الجديدة من الشمال، محافظة الحديدة من الغرب، محافظة ذمار من الجنوب، محافظة ذمار وجزء من محافظة صنعاء من الشرق.
تضاريس ومناخ محافظة ريمة
   تتميز مديرية ريمة بمناخها البارد في فصل الشتاء، والمعتدل في فصل الصيف. وتتنوع التضاريس في محافظة ريمة، فتتغير التضاريس بين الإلتواءات والإنحدارات، وتنقسم محافظة ريمة تضاريسياً إلى ثلاثة أقسام متميزة هي:
- القسم الغربي: ويشمل مديرية الجعفرية، وغربي مديريتي الجبين وبلاد الطعام، وهي جبال الحواز المتراوح ارتفاعاتها بين (1500- 1800م) عن مستوى سطح البحر، وهي كثيرة الصخور قليلة السهول.
- القسم الأوسط: وهي سلسلة الجبال العالية من (1500- 2950 م) عن مستوى سطح البحر، وهي شديدة الإنحدار متنوعة المحاصيل، وتشمل مديرية كسمة ووسط مديريتي الجبين وبلاد الطعام.
- القسم الشرقي: وتشمل مديرية السلفية وشرقي مديريتي الجبين وبلاد الطعام، وهي جبال متباعدة وقليلة الإرتفاع تتخللها الوديان الواسعة والسهول الزراعية الخصبة..
 محافظة ريمة عبر التاريخ
كانت وما زالت محافظة ريمة مسرحاً لأحداث تاريخية دارت فيها، سواءً في فترة ما قبل الإسلام أو قبل الميلاد أو بعدهما.. فقد دارت فيها أحداث منذ فترة ما قبل الإسلام، وقد أشار الإخباريون بأن تاريخ ريمة يعود إلى (القرن الثالث قبل الميلاد)، وتلك أقدم إشارة عنها، ويعتقد "الهمداني" أن أول موطن للإنسان اليمني كان في هذه البقعة حيث موقع "شجبان" وهو الحد الفاصل بين مخلاف جبلان ومخاليف غربي ذمار، وإليه ينسب "يشجب بن قحطان"؛ كما أن "الهمداني" يقف عندها طويلاً في أكثر من موضع فيصف جبالها وحصونها ومناطق الآثار فيها، ولا شك أن خصائصها الجغرافية بوديانها الجارية، ومناخها المتنوع ومروجها الخضراء، وتربتها الخصبة، وقلاعها الشامخة، قد شكلت مصدر جذب وتنافس منذ فجر التاريخ لكل ملوك الدول المتعاقبة على حكم اليمن.
وجد في أحد النقوش التي عُثر عليها في جبل الدومر أنه قد أظهر ريمة بأنها واحدة من دويلات الدولة القتبانية، وفيها قبيلة تتبع أولاد (عم) – الإله (عم) الإله الرسمي لدولة قتبان – وهي قبيلة (عجبم)، وقد ذكر ذلك النقش وجود معبدان في جبل الدومر للإله (عم)، وسيطرة الدولة القتبانية على ريمة كان يعني إحاطة قاع جهران السبئي من جهاته الثلاث الشرقية والجنوبية والغربية، وبالتالي إيقاف الإستيطان السبئي جنوباً فيالهضبة، في مدينة ذمار، وغرباً في شبام كوكبان، هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فأن سيطرة الدولة القتبانية على ريمة يعتبر كجزء من خطتها لحماية سواحل البحر الأحمر الذي كان يقع تحت سلطتها، ولكن قلة الدراسات الأثرية في ريمة جعلتنا نجهل الكثير من أدوارها في عصور ما قبل الإسلام وبعد أفول نجم الدولة القتبانية أصبحت ريمة في وقت من الأوقات هي الخطوط الأمامية للدولة السبئية ومن ثم للدولة الحميرية ضد الأحباش الذين سيطروا على تهامة وسواحل البحر الأحمر، ثم لعبت ريمة – أيضاً – في الفترة الإسلامية وحتى العصر الحديث أدواراً هامة، ودارت على أراضيها الكثير من الأحداث، وقد كانت تلك الأراضي في الفترة المتأخرة مطمعاً للكثير من قبائل اليمن مثل خولان وغيرها، وانتقلت أسر وعائلات إليها؛ وسبب ذلك خصوبة تلك الأراضي واشتهارها بشكل ملفت للنظر بوفرة الماشية فيها خاصة الأبقار، إضافة إلى وجود النحل فيها التي تنتج كميات كبيرة من العسل اشتهرت بها ريمة منذ سالف الزمان.
من المعلوم إن مدناً عديدة من المدن التي أقيمت على جانبي وادي سهام، ووادي رماع ومدخل الوديان الغربية، ساهمت بفاعلية في مجريات الصراع على العرش السبئي، ويعتقد أيضاً أن الريدانيين (ربما نسبة إلى ريدان في السلفية) قد انطلقوا منها قبل أن يسيطروا على ظفار ويؤسسوها عاصمة لدولة سبأ وذي ريدان عام 115ق م . ويذكرنا تمثال الملك الحميري (يهامن) بتلك البقايا من القصور الملكية التي تتوسطها أنفاقا محفورة في بطن الصخر على قمة جبل (بلق) يامن مديرية كسمة، التي يرجح أنها كانت مركزا لهذا الملك، وسميت باسمه، فضلاً عن النقوش والنصوص التي لازالت قائمة في جبل الدومر لبقايا مدينة كانت تسمى مدينة (العجب) وهو اسم على مسمى؛ بل يعتقد أن مملكة الأكسوم في الحبشة إنما اكتسبت اسمها من نسبتها إلى كسمة.
كما أن خطوط سير المعارك التي أظهرتها النقوش إبان الصراع السبئي – الريداني يذكر أن الكثير من هذه المعارك كانت تدور في مناطق تتجه إلى ريمة، أو الوديان والسهول والمدن المحيطة بها، كوادي سهام، والمعقر، وقريس،  وهكر وغيرها، وهي دلاله على الأهمية التاريخية التي احتلتها . وهكذا استقر الإنسان على ضفاف الوديان، صاعداً على سفوح الجبال حتى قممها، فبناها وزخرفها بالعديد من المدرجات الزراعية، والبيوت السكنية، والقصور الملكية، والقلاع الإستراتيجية، والكهوف والأنفاق والسدود والمعالم والآثار العجيبة.
وذكر الأستاذ/ حيدر علي ناجي – أطال الله عمره – في إحدى مؤلفاته عن محافظة ريمة أن الإنسان اليمني الذي سكن مناطق ريمة المختلفة والمشهورة بجبالها ومرتفعاتها الشاهقة قد تركوا لنا أسماءهم وألقابهم على المناطق التي استوطنوها؛ بل أنهم أطلقوا على قلاعهم ألقابا تحمل مدلولات فيها من الاعتزاز والتفاؤل والشجاعة، فهناك (عزان) من العز و(نوفان) من النيافة، وريمة من السمو؛ حيث أظهرت المقارنة لعدد من النقوش أن كلمة ريمة تعني (السمو) وكانت تطلق كألقاب مقدسة على الآلهة والمعابد والقلاع والوديان وما ريمة إلاّ اسم حصن يتوسط هذا الإقليم، لا تزال بجواره قرية  تحمل هذا الاسم، أما الحصن فقد أصبح أسمه حصن مسعود مديرية (الجبين).
وبعد ظهور الإسلام حدثت بعض الهجرات من وإلى ريمة، فنشأت تجمعات بشرية جديدة وانتشرت المدارس العلمية، واشتهر فيها الكثير من العلماء والشعراء والأدباء، وقد أشتهر العديد من علمائها الذين انتقلوا وهاجروا منها إلى الحواضر اليمنية الأخرى، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر المرحوم العلامة/ جمال الدين محمد بن عبدالله الريمي ولد جمال الدين محمد بن عبدالله بن أبي بكر الحبيشي الصردفي التراري الريمي سنة 710هـ في الصردف،  وهي صردف الجند بالقرب من مدينة تعز.. توفي يوم الأربعاء 24 صفر وقيل 27 محرم سنة 792هـ بزبيد ودفن فيها. نشأ وترعرع في بيت علم؛ فجده أبوبكر بن عبدالله الريمي من ذرحان ريمة الأشباط كان فقيهاً عارفاً مدرساً، تفقه بعلي بن قاسم الحكمي كما تفقه به جماعة كثيرون ودرس بالمدرسة التاجية بزبيد.. ثم خلفه ابنه عبدالله  بن أبي بكر (والد جمال الدين الريمي) بالتدريس، وعمه محمد بن أبي بكر.
وكان له الكثير من النتاج العلمي والأدبي في كافة المجالات، سواءً في العقيدة أو في الحديث أو في الفقه، أو في القانون أو في غير ذلك من المجالات العلمية،ومن آثارها ونتاجاته: (كتاب الإنتصار لعلماء الأمصار، كتاب شفاء الضمان في الكشف عن مسألة الإسلام والإيمان، اتفاق العلماء، بغية الناسك في كيفية المناسك، خلاصة الخواطر اللوذعية في كشف عويص المسائل اللغزية، مطلع الإشراق في اختلاف الغزالي وأبي إسحاق الشيرازي) وغيرها الكثير والكثير..
وخلال الحكم العثماني الأول كانت ريمة من أكثر المناطق اليمنية مقاومة للتواجد العثماني في اليمن رغم كثرة الحملات التي أرسلها العثمانيون على المحافظة، وبعد انسحاب العثمانيين عام (1636م / 1045هـ ) دخلت ريمة تحت نفوذ الإمامة القاسمية، حيث كانت من أهم المناطق اليمنية التي يتنافس عليها الولاة والأمراء؛ ساعدها على ذلك ازدهار تجارة البن عالمياً الأمر الذي لفت انتباه (نيبور) والبعثة الدانمركية خلال القرن الثامن عشر؛ حيث ذكر أن سوقي علوجه والحديه من أهم أسواق البن في اليمن، وكانت بيت الفقيه من أهم أسواق البن في العالم..
ريمة في النقوش الأثرية
ذكرت العديد من مناطق محافظة ريمة في النقوش التاريخية الأثرية اليمنية، وذلك خلال الدولة المتعاقبة على حكم اليمن ومناطقه الواسعة، وكانت منطقة يعفان هي أول منطقة تذكر في النقوش، ويعفان: في التقسيمات الإدارية، اسم عزلة في مديرية السلفية، واسم للحصن الكائن في قمة العزلة، والذي تحيط به الوديان والسهول الزراعية في جميع الجهات. وقد كان حصن يفعان معقلا ومركزا مشهورا قبل الإسلام، وفي العصر الإسلامي، وفي العصر الحديث حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري، حينما بنى الشيخ المنتصر قلعة الضلاع بني نفيع.  وقد زارته البعثة الأثرية عام 1986م وذكر أنه يضم العديد من المنشآت السكنية المشيدة بالأحجار المهذبة فلا يزال لها ارتفاعات تبلغ الثلاثة أمتار تقريبا في معظم المباني، كما يوجد بجواره بعض القبور المرتفعة..كما توجد مغارة استخدمت الأحجار الكبيرة في عملية بناءها، كما لا يخلو الموقع من المدافن والسقايات ذات الأشكال الاسطوانية والمربعة والذي عليه طوائها..وهذه المدافن والسقايات لها بوابات مستطيلة ومربعة استخدمت أحجار الصلل المستطيلة عند بوابتها. وفي ترجمة لإحدى النقوش التاريخية، وجد فيه هذه النقاط:
- إن يكرب ملك وتار ملك سبأ(540 – 520 ق.م ) بن يدع إل بين ملك سبأ (560-520 ق.م )أصدر هذا المرسوم الذي أبلغه قبائل (سبأ ) وهي خليل، غانم، دوم، عهر، فيشان، نزحت، أربعان، حران ورؤساءها.
- كليتهم، وقبيلة زخل ، ونفق بن علي وتابعي (سبأ) و(يهبلح ) أبناء وآباء وسادة وعبيدا.
- كلهم سمعوا ووعوا هذا النداء الموجه الى شعب  (سبأ )وقبائلها المنتشرة من (يفعان ) الى (ذسبهي )، والذي يذكر الناس بوصية .
- يدع إل بين ملك سبأ بن كرب إل وتار ملك (سبأ ) و (يهبلح ) التي أصدرها بمدينة (صرواح)  والتي سن فيها قانوني : الارض والضرائب المتعلقين بها ، حسبما بينه وشرحه . وكان هذا في اليوم الثامن من الشهر الثاني من سنة نشأ كرب بن كرب خليل .
وقد شهدت محافظة ريمة بمختلف مديرياتها وعزلها الكثير من الأحداث التاريخية التي لا يتسع المجال لنا لذكرها في هذا المقال.. وسنتكرق إليها في مقالاتنا اللاحقة عن مديريات المحافظة بإذن الله تعالى.
من المراجع التي رجعنا إليها في إعدادنا لهذا المقال: (الموسوعة اليمنية)، (الموسوعة السكانية/ للدكتور محمد علي عثمان المخلافي)، (نتائج المسح السياحي)، (نتائج التعداد العام للسكان والمساكن والمنشأت للعام 2004م)، (معالم الآثار اليمنية/ للقاضي المرحوم حسين السياغي)، (مجموع بلدان اليمن وقبائلها/ للمرحوم القاضي محمد أحمد الحجري)، (معجم البلدان والقبائل اليمنية/للباحث الكبير الأستاذ/ إبراهيم بن أحمد المقحفي/ طبعة2011م)، (المعاني البديعة في معرفة إختلاف أهل الشريعة/ تأليف الإمام جمال الدين محمد بن عبدالله الريمي/ تحقيق د. محمد عبدالواحد الشجاع)، (إنشاء وتأسيس محافظة ريمة/ تأليف حيدر علي ناجي العزي/ الطبعة الأولى 2011م)، خريطة المديرية المرفقة من إعداد م.أحمد غالب عبدالكريم المصباحي...
alarachi2012@yahoo.com


الأربعاء، 4 مايو 2016

موضوعات عن الحرب في كتاب من بواكير حركة التنوير في اليمن بقلم المرحوم خالي القاضي احمد محمد مداعس وتحقيقي

اخواني المتصفحين لصفحتي في  المدونة يسرني ان انقل اليكم اربعه مقالات التي وردت عن الحرب بقلم المرحوم القاضي احمد محمد مداعس التي نشرت في كتاب من بواكير حركة التنوير في اليمن (المجموعة الادبية والصحفية للقاضي احمد محمد مداعس بتحقيقي




1- الإنسان والحرب (1).
2- الإنسان والحرب (2).
3- الإنسان والحرب (3).
4- الإنسان والحرب (4).

الإنسان والحرب (1) *
في كلامي هنا عن الإنسان والحكم عليه بالنسبة لنفسه الشريرة الأمارة بالسوء والنزاعة إلى الشر والأذى. في كلامي هنا عن الإنسان شيء من الاختلاف مع المناطقة الذين خدعوا بالبرق الذي يلمع في هذا الإنسان من عقل وتفكير حتى عرفوه بأنه (حيوان ناطق) كما أن في كلامي هنا شيئاً من التباين مع الفيلسوف الكبير أرسطو الذي خُدع هو الأخير بهذا البريق الإنساني فعرفه بقوله (أنه حيوان مدني بطبعه) وإنني قبل أن أتطرق إلى الموضوع أستمد من هذا الحكيم ومن أولئك المناطقة أستمد المعذرة والتسامح فإن فكري وإن كان لا شيء بالنسبة لأفكارهم وبالتالي فإن الحقيقة الناصعة والواقع الملموس ليدلان دلالة واضحة على صدق ما أقول وصحة ما أكتب، ولو أنصف هؤلاء القوم لعرفوا الإنسان بما عرفه به كاتب العروبة الأكبر وأمير بيانها الفذ الأستاذ أحمد أمين رحمه الله حيث عرف الإنسان بقوله في كلام عن الإنسان (والإنسان حيوان محارب) أجل وهو كذلك حرب في الحرب وحرب في السلم وحرب في المدرسة وحرب في الوظيفة وحرب في الديانات وحرب في السياسة وكل طبقات الإنسان على اختلافها حرب كانوا كذلك قديما وهم كذلك حديثاً وهم لا يزالون كذلك ما زالت أنيابهم في أفواههم ومخالبهم في أيديهم، فالإنسان منذ بداية خلقه إلى الآن سلسلة حروب ونزاع، نازع الملائكةُ في خلقه فقالوا له تعالى ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾( ) ثم كان خلق الإنسان وليد هذا النزاع فحل أول محل في الجنة حيث النعيم والطمأنينة وحيث الأمن والسلام ولكنه لم يرض ذلك كله فترك ماحل له وأكل مما حرم عليه فكان هذا الأكل سبباً لخروجه من الجنة فلو أحب السلام لأطاع ولو أطاع لما أكل .
وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة حروب الإنسان وخروجه على الأمن والسلام كما يرويها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ...الآية﴾( )فمن قتل يا ترى ومن بقي على سطح الأرض. لقد قُتِل الإنسان المسالم الذي قال لأخيه ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ﴾( ) فلو خاف الله كل إنسان يدب على سطح هذا الكوكب كما خاف الله ذلك القتيل الأول لما سفكت في الدنيا قطرة واحدة من الدم، ولكنها سنة الله في خلقه فقُتل المسالم وبقي على الأرض ذلك السفاك الأول ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وتاريخ الأنبياء مع خصومهم والمجددين والمصلحين مع أعدائهم كل ذلك ينحصر في كلمات معدودات – دعوة فاستنكار فقتل فانتصار، وأقرأ تاريخ الأمم فهل تراه إلا تاريخاً حافلاً بالحروب وأهوال الحروب وأحداث الحروب؟ حرباً أيام الحرب واستعداداً للحرب أيام السلم، ولم يكن ذلك مقصوراً على أمة أو جيل دون جيل، إنما هو تاريخ كل أمة في كل عصر، في الشرق والغرب في البدو والحضر في السهل والجبل في البر والبحر.   يتبع.
*نشر في جريدة النصر العدد (221) 61 رجب 1379هـ 14 يناير1960م.

الإنسان والحرب (2) *
وأخيراً في أعالي السماء وفي أعماق البحار!! فتاريخ اليونان حرب، وتاريخ الرومان حرب، وتاريخ العرب حرب، وتاريخ الفرس حرب، وتاريخ أوروبا حرب، وتاريخ اليابان حرب، وتاريخ أمريكا حرب، وتاريخ العالم الآن حرب في حرب في حرب، وكيف لا يكون ذلك؟
وكلما أستكشف الإنسان مادة من مواد الحياة أو قانوناً من قوانين الطبيعةْ إستخدمها في تحطيم رأس أخيه وتهشيم جسمه، رأى الحجر أول ما رأى فأتخذ منه قذيفة للفتك والتدمير سواء بيده أو بواسطة المنجنيق أو بغيره، واستكشف الحديد فعمل منه سكيناً وسهماً وسيوفاً وأسنة ورماحاً، ثم مدافع ومصفحات ودبابات، وآخر صواريخ عابرة للقارات تحمل في أجوافها من المتفجرات الهيدروجينية والذرية مالا يعلم مدى فداحته بالحياة إلا الله، عرف الإنسان قوانين المياه فبنى عليها أساطيل وغواصات وطوربيدات وطرادات،وظهرت له قوانين الهواء فأنشاء عليه مناطيد وطائرات.
دخلوا على العقبان في أوكارها
                        وتسربوا لمسارح الأفلاك

ولكن هذا الإنسان لم يقف عند هذا الحد من المعرفة، فقد عرف اليوم ما هو فوق ذلك وما هو أدهش من كل ذلك، فقد غزا بعقله وتفكيره الفضاء الخارجي وصار يعبر الأجواء البعيدة عن نطاق الكرة الأرضية محاولاً بذلك الوصول إلى القمر. وهنا يتحقق المعنى الكائن في قول الشاعر اللبناني الشهير (رشيد سليم الخوري)( ) حيث قال:
وثبات الأقدام في الترب لكن
                        وثبات العقول فوق الكواكب

وليطل (أرسطوس) على عالم اليوم ويلقي نظرة واحدة على ما وصل إليه هذا (الحيوان المدني بطبعه) من المدنية والحضارة والرقي الخارق، لينظر (أرسطوس ويتفرج ويملئُ عينه ويقول يا سلام سلم) على هذه الدماء المتدفقة كمياه الأنهار في قطر الجزائر وعلى تلك الآلاف ومئات الآلاف من جثث القتلى المبعثرة ذات اليمين وذات الشمال في كل من فلسطين وعمان والجزء الحبيب من جنوب اليمن المحتل، لينظر أرسطوس إلى المليون اللاجئ من أبناء العرب الذين سأمهم الشقاء ومل من بؤسهم البؤس بعد أن طردوا من ديارهم بفلسطين العربية وتمالا على حقوقهم وشردهم من أرضهم ذلك (الحيوان المدني بطبعه).
لينظر أرسطوس وأمثال أرسطوس إلى ذلك وإلى كل ذلك ويطوف بفكره عبر التاريخ من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر حتى يصل إلى عالمنا (الذري) الذي يعيش أبناؤه اليوم على بركان وشيك الانفجار وهو منفجرٌ ولا ريب أن لم تمح من عالم الوجود تلك الكلمة المقيتة التي يقال لها (استعمار) والتي توجد مع مدلولها ويا للأسف في القرن العشرين عهد الحرية والنور والمساواة والعدالة كما تزعمون. وإذا كان أرسطوس في شك مما أقول وفي صحة خطئه بتعريف الإنسان بأنه (حيوان مدني بطبعه) إذا كان في شك من ذلك فما عليه إلا أن يعرج على (هيروشيما)( ) في اليابان ويسألها عن الخبر اليقين فلسوف يجد الجواب الشافي عندما يترجم له ما تبقى من طلول تلك المدينة المنكوبة عن مصير المائتي ألف نسمة من أبناء البشر الذين أطاحت بحياتهم قنبلة واحدة مما اخترعه هذا (الحيوان المدني بطبعه).
وبعد – ايها القارئ الكريم – فهذه نظرة خاطفة عن (الإنسان والحرب) وعما عرفه به كل من أرسطوس وعلماء المنطق وما عرفه به (أحمد أمين) ثم عن الواقع الملموس في طبيعة الإنسان وغريزته ونزعته منذ بداية خلقه إلى عصرنا هذا.
أما الحكم بالصحيح في هذه الأقوال والباطل منها فسوف أترك ذلك لحضرتك أيها القارئ الكريم بصفتك بعضاً من ذلك الإنسان الذي يدور حوله الموضوع ويحتدم من أجله النقاش متمثلاً بقول أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة حيث قال:
(فيك الخصام وأنت الخصم والحكم)
*نشر في جريدة النصر العدد (222) 30 رجب 1379هـ 28 يناير1960م.

الإنسان والحرب (3) *
في العدد الفائت من النصر الغراء. وتحت هذا العنوان قدمت للقارئ الكريم مقالاً عن الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء النزاعة إلى الشر والأذى. وما عرفَ علماء المنطق من أنه " حيوان ناطق" وما قد عرفه به أرسطو من انه "حيوان مدني بطبعه" ثم قول الأستاذ المرحوم أحمد أمين( ) بأنه "حيوان محارب" وما يخالف قول أرسطو من أن هذا "الحيوان المدني بطبعه" ليس إلا حيواناً مفترساً وليس إلا سلسلة من الحروب منذ بداية خلقه إلى عصرنا هذا، ولقد كان الكلام في المقال السابق عن (الإنسان والحرب) من الناحية التاريخية أي منذ بداية خلقه إلى خروجه من الجنة حيث النعيم والطمأنينة. وحيث الأمن والسلام إلى سفك أول قطرة من الدم على وجه الأرض. إلى عصر الذرة والهيدروجينية والصواريخ العابرة للقارات وغزو الفضاء الخارجي وغير ذلك مما توصلت إليه الطاقة البشرية في المكتشفات العلمية والمخترعات الجهنمية الفتاكة التي لا يستطيع العقل والمنطق أن يصف مخترعها بما وصفه به أرسطو من أنه "حيوان مدني بطبعه" اللهم إلا إذا كان ذلك من قبيل المنطق المعكوس، وعبرنا عن المدنية بالهمجية والتوحش فقول أرسطو صحيح ومسلم به. ولقد وعدت في نهاية المقال السابق بالعودة إلى الموضوع. وهاأنذا أعود ثانية فأتكلم عن (الإنسان والحرب) من الناحيتين السياسية والأدبية. فمن الناحية السياسية مثلاً تأليف الأحزاب التي ليست في حد ذاتها إلا معسكرات منافسة ومعادية بعضها لبعض. وانظر إلى معارك الانتخابات وما يجري فيها بين تلك الأحزاب من مظاهرات ومهاترات ومن سبٍ وشتم وتراشق بالألفاظ وتعداد مساوئ واتهام بالخيانة و.. و.. الخ وقد يحمى الوطيس في هذه المعارك الكلامية إلى أن تصبح معارك دموية فعلاً. فالقتل والجرح والإصابة عديدة في كل من الحزبين المتنافسين. وبالتالي في كل من المعسكرين المتناحرين. وهكذا دواليك (وكلما دخلت أُمةٌ في الحكم لعنت أختها) وهناك حرب سياسية أوسع نطاقاً وأعظم خطراً إذ أنها لم تكن بين حزب وأخر أو بين كتلة وثانية ولكنها حربٌ عالمية ودولية تلك هي ما يسمونها بـ(الحرب الباردة) أو (حرب الأعصاب) (وحرب الثوار وحرب العصابات) و(الحرب الاقتصادية) وغير ذلك من مسميات الحروب وأشكالها وأنواعها. هذا هو شأن "الإنسان والحرب" من الناحية السياسية. أما من الناحية الأدبية فأذكر على سبيل المثال الشعر العربي الجاهلي فإنك عندما تقرأه ترى الدم يشيع في جميع نواحيه. وتجد الأشلاء وجثث القتلى تتطاير من كل جنباته وهذه (المعلقات السبع) التي طار صيتها وطبق الآفاق وهي في حد ذاتها وموضوعها لم تنفذ كونها تصويراً واضحاً للكر وإقدام البطولة، البأس،الشجاعة، الضرب، الطعان،..الخ. وهذه كلها من صفات الحروب ومستلزمات مبشريها وموقدي نارها وهل في (عكاظ)( ) بضاعةٌ أكثر رواجاً وأعظم انتشاراً وأشد إقبالاً عليها مما تعرضه الشعراء في هذه السوق من (بنات الأفكار) المحشوة بكل صفات الفخر والاعتزاز التي لا تخرج كلها عن نطاق التفوق والغلبة وقهر الأعداء والعز والمجد اللَّذَينِ لا يأتيان إلا عن طريق الكر في حومة الوغى؟؟ وليس هذا هو شأن الأدب العربي فحسب بل هذه هي الحال في كل الآداب شرقيها وغربيها قديمها وحديثها.وليس هذا هو شأن الأدب في حالتي الجد والحزم لا سوى بل الأمر كذلك في حالتي (الهزل واللعب)،وهنا يجدر بي بل ويجب علي أن أتنحى عن الطريق وأن أفسح المجال للعلامة الكبير الأستاذ/أحمد أمين حيث يقول بهذا الصدد:"وإذا كان الأدباء قد أقاموا دولة الغزل والنسيب، وهو بابٌ من أبواب الحياة وأحبها إلى النفوس وادعاها للسرور والطمأنينة، إذا كان هؤلاء الأدباء قد أقاموا هذه الدولة فإنهم وهم أبعد الناس عن الحرب، قد صاروا ليستعيروا كل ألفاظ الحروب والقتال في التعبير عن خواطرهم ومعانيهم فنظرات الحبيب (سهام) وحمرة الخد (دم) وانتصاب الأنف (سيف) وغير ذلك من المشبهات" وهنا وقد تكلم الأستاذ عن نقل ألفاظ القتال في ساحة الوغى إلى دنيا الغزل، هنا أحببت بدافع التدخل والتطاول أن أقحم نفسي بطلب الإذن من الأستاذ أحمد أمين لأذكر بعض أولئك الجنود الذي سقطوا في معركة الهوى في معركة الشرف كما يقولون في منطق الحرب مع ذكر شيء من أشعارهم الغزلية الحربية، فهذا مُسلِم بن الوليد المعروف بـ(صريع الغواني) أنظر إليه وهو يصور معركة من تلك المعارك اليابسة التي لم تهرق فيها قطرة واحدة من دم وإنما حشر فيها كل ألفاظ الحرب حشراً قال صريع الغواني:
نقاتل أبطال الوغى فنبيدهم
                        ويقتلننا في السلم لحظ الكواعب

فليست سهام الموت تُفني نفوسنا
                        ولكن سهام فُوقِت بالحواجب

وقال جرير:
إن العيون التي في طرفها حورٌ
                        قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
                        وهن أضعف خلق الله إنسانا

وقال آخرون
ما تفعل البيض وسمر الرماح
                        فعل العيون الفاترات الملاح

            ***       
هذا دمي في وجنتيك عرفته
                        لا تستطيع جحوده عيناك

            ***       
خداك قد اعترفا بدمي
                        فعلامَ جفونك تجحده

            ***       
خذوا فؤادي من أسير المقل
                        فوا عجباه لأسير قتل

ثم لنعد إلى بقية دار البيان التي جاد بها فكر أحمد أمين الفياض ورسمها يراعه الساحر بهذا الصدد قال رحمه الله: وهكذا ملئوا هذا الباب البديع اللطيف دماً وقتلاً وسهاماً ونبالاً وفتكاً وصراعاً.وديةً وقوداً ونقلوا كل أدوات القتال حيث لا قتل ولا قتال.
واللعب أيضاً!!
ولما أراد الناس أن يلعبوا لعبوا بالقتال ومثلوا المعركة من جميع نواحيها، فهذا الشطرنج ملئوه خيلاً وفيلة وجنوداً وقلاعاً ووزراء ودولة وملكاً يدور حول عرشه القتال.ثم ماذا؟؟ ثم تكون النهاية (كش) (مات ملك) وكذلك القول في النرد والدمنة وغيرهما من اللعب.. ومرنوا الأطفال والشباب على لعب الكرة فقسموهم معسكرين ونظموهم جيشين وأقاموا لهم ميادين صالوا فيها وجالوا وهكذا استغلوا في كثير الألعاب غريزة الإنسان وميوله إلى الحرب، إذ لو كان للإنسان غريزة أخرى تسد مسدها لأتوه عن طريقها،هكذا قال رحمه الله ولكنه الإنسان ذلك الحيوان المفترس الذي لا تأخذه في سفك الدماء لومة لائم.
*نشر في جريدة النصر العدد (223) 14شعبان1379هـ 11فبراير1960م.

الإنسان والحرب (4) *
في البحوث الثلاثة السابقة وتحت هذا العنوان قدمت لقراء (النصر) الغراء الكلام عن (الإنسان والحرب) من النواحي التاريخية والسياسية والأدبية أما في هذا المقال الذي يعتبر خاتمة المكان حول هذا الحيوان الولوع بسفك الدماء الشغوف بالغلبة والتفوق المليء بالأنانية وحب الأثرة، ولو كان ذلك التفوق وتلك الغلبة على حساب الغير وعرض الغير ودم الغير، أما في هذا المقال فسوف أتحدث عن الإنسان والحرب من الناحية الاقتصادية ولقد سبق لي أن نوهت به نحو (الحرب الاقتصادية) في المقال الفائت ولكن ذلك لم يتعد كونه من قبيل الاستطراد ليس إلا، والحرب الاقتصادية اليوم لها أثرها الفعال ونفوذها القوي في المحيط الدولي وعند كل الأمم وبين عموم الهيئات والمؤسسات التجارية والصناعية والزراعية، وهذه الحرب بالنسبة لصالح الجماهير في عموم الأقطار هي أنفع أنواع الحروب وأجداها، بل هي الوحيدة من نوعها في جلب الفائدة للصالح العام ودعم حياة الأمم والتخفيف من وطأة العيش، فالتنافس بين شركة وأخرى والمزاحمة بين مؤسسة وثانية كل ذلك لم يجن الفائدة من ورائه إلا الأفراد والمجتمعات في كل أمة وفي كل دولة، وعلى ضوء هذا الاعتبار فإنني أعتقد أنه يصح القول بأن هذه الحرب (حرب حيوية) وهي بلسم لتضميد الجراحات الناتجة عن (الحرب الدموية)، ولنستطرد على سبيل المثال مصنوعات (اليابان) ومنتوجاتها من كل أصناف التجارة، فلقد (غزت) هذه المنتوجات كل أسواق الدنيا وغدت (تكتسح) وتحطم كلما كان لمصانع الغرب وشركات الغرب ومؤسسات الغرب من (معاقل) حصينة في أسواق العالم تدخر فيها كل أنواع الجشع والاحتكار والتحكم في الأرباح حتى هبطت هذه المنتوجات الشرقية بأطماع الغرب إلى نصف القيمة فما دون في بعض المنتوجات، وكذلك القول في منتجات الهند والصين الشعبية وغيرها من البلدان الشرقية التي بدأت تحطم الأغلال وتتحرر من ربقة الاستعمار الغربي المقيت الأمر الذي جعل الغرب ومصانع الغرب وفي المقدمة أمريكا وبريطانيا جعلها تشكو صداعاً وتصدعاً في كيانها منذ دارت العجلة دورتها الأولى في أول مصنع في الشرق، وهذه لعمر الحق حرب حبيبة إلى النفوس في كل أصقاع الدنيا رغم أنف أرباب الاستغلال ومصاصي الدماء ومحتكري الأموال.
 إننا شعوب العالم لنطالب المزيد من المسابقة والمزيد من (الكر والإقدام)في مثل هذا المضمار الحيوي مضمار البناء والتعمير لا مضمار الفناء والتدمير، وإننا لفي أشد الانتظار لأن تعم هذه الحركة التحررية المباركة وهذا الغزو الاقتصادي العظيم كل بقاع الشرق وبوجه خاص كل جزء من أجزاء شرقنا العربي المنطلق.
وبعد أيها القارئ الكريم فإنني أعتقد أن الكلام معك عن (الإنسان والحرب) وخشية الملل سأضطر إلى بدء حديثي معك حول هذا الموضوع، ولكنه يجدر بي بل ويجب علينا جميعاً أن نذكر دائماً وأبداً أن لا يعزب عن أفكارنا بأنه منذ عهد بعيد أي منذ ثلاثة عشر قرناً وتسعة وسبعين عاماً جاء قوم من الحكماء وملائكة البشر وعلى رأسهم سيد الكائنات ومنقذ البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، جاء هؤلاء القوم يدعون الناس إلى التحابب والتآخي ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، وينشرون لواء السلام ويقفون سداً حاجزاً في وجه الحرب ويعلنون أن الإنسان أخو الإنسان وينادون في مسمع الدنيا لكافة البشر أن أحب لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك، وجاء الدين الإسلامي يدعو بالحسنى واشتق اسم الإسلام من السلام ولكن ماذا؟ ولكن ويا للخيبة ولكن ويا للأسف، فسد الناس وأطرد القياس، وهذا هو تاريخ المسلمين بين يديك فتشه وتجول بين صفحاته فسوف لا تجد إلا حروباً لا تنتهي، ومنازعات ومهاترات ليس لها أخر، وكذلك القول في سائر الأديان، فهذا دين النصرانية يدعو إلى السلام والتسامح إلى حد أن يقول (من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) ثم لم يُرَ في تاريخ العالم أُممٌ تحب القتل وتتفنن في أساليبه وتدعوا إليه وتفتك أشد الفتك وأروعه وأحماه كما تفعل أمم النصرانية ببعضها مع بعض وبعضها مع غيرها، وهل بعيد عن الأذهان أم هل علق بها من التبلد والبلاهة إلى حد أن ننسى ما يجري اليوم من الفتك والتنكيل ومن القتل والتدمير وإزهاق الأرواح وإهراق الدماء في كل بلد من الجزائر العربية المناضلة وعمان الباسلة والجنوب اليمني الحبيب؟ وهل مأساة فلسطين وغيرها من المآسي والمخازي التي خلقها الغرب وجشع الغرب واستعمار الغرب هل كل ذلك ببعيد عن الأذهان؟؟ لا.لا. وألف كلا.
*نشر في جريدة النصر العدد (225) 13 رمضان 1379هـ 10 مارس 1960م




الاثنين، 25 أبريل 2016

تعريف بكتاب (دفاتر الأيام)

بسم الله الرحمن الرحيم

تعريف بكتاب (دفاتر الأيام)للأديب والشاعر الكبير المرحوم/ فضل النقيب

أخي المتصفح لصفحتي في شبكة التواصل الإجتماعي؛ يسرني أن أقدم لك في هذه الصفحة نبذة عن كتاب (دفاتر الأيام) للأديب والشاعر الكبير المرحوم/فضل النقيب(1944 – 2012م)، وقد قدم له الأستاذ/ خالد عبدالله الرويشان وزير الثقافة في ذلك الوقت على الغلاف الخلفي، بقوله:
(يطوف معك فضل النقيب في حديقته المنظومة، ويطير بك في آفاقه المنثورة، فلا يبلغك ملل، ولا ينال منك كلل.
ثائرٌ باهرُ، وشاعر ساحر. يقطر شفق حنينه عذوبة منغمة، وحميا إشراقاته إكسيراً للحياة، وهو يفعل ذلك، كي تجلجل بحة صوته الرائعة بضحكة النسيان! يا لهول ما رأى الشاعر، وغرائب ما عاين! كيف استطاع أن يحيل الحرائق إلى ضوء، وحمرة الألم إلى شفقٍ أخّاذ، وأن يجعل من العمر ساعة تَجّلٍ وتملٍّ لبارق ذاك الضوء، ووقفة جلال وإجلال لذاك الشفق؟
فضل النقيب.. رقة شاعر، وموسوعية مثقف، وشغف فنان، وأريحية زعيم!)
ومن خلال استعراضي للكتاب المذكور، وجدت فيه معلومات سياسية مهمة عما كان يجري في عاصمة اليمن الاقتصادية (عدن) قبل الوحدة، وعن المرحوم/ سالم ربيع علي (1935 – 1978م)، والمرحوم/ عبدالفتاح إسماعيل (1938 – 1986م)، ومعلومات أدبية لبعض الشخصيات مثل: المرحوم/ محمد سعيد جراده (1926 – 1991م)، وعن المرحوم/ عمر الجاوي (1938 – 1997م) وقصة زواج عمر الجاوي من ثريا منقوش (المولودة عام 1946م)، ومعلومات أدبية عن المرحوم/ صالح الدحان (1940 – 2012م) وقضية انتقاله إلى صنعاء، والصراع بين الشيوعية الماركسية والصينية..
والكتاب يتكون من (120) صفحة من القطع الصغير، وهو من إصدارات وزارة الثقافة عام 2006.
وأنت أخي القارئ الكريم المتصفح لصفحتي على الفيس بوك، عليك الرجوع إلى هذا الكتاب والاستفادة منه..
وقد رأيت أن أنقل إليكم، كوجبة ثقافية خفيفة، مليئة بالفائدة في طيات سطورها القليلة، كنموذج ربما يثير الشغف لديك أخي القارئ الكريم للبحث عن هذا الكتاب واقتنائه، وقراءة ما غاب في هذه السطور والذي سيكون أكثر فائدة وأوسع. ومن خلاله تستطيعون أن تعرفوا ما جنته الثقافة الغربية التي غرسها الإنجليز في جنوبنا المحتل، والثقافة الماركسية التي غرسها الاتحاد السوفيتي، والصراع بين الأجنحة اليسارية التي تنتمي إلى موسكو أو التي تنتمي إلى بكين..
وبعد استعراضك لمقالي هذا وكتاب (دفاتر الأيام) أليس من حقنا أن نعرف طبيعة الأخوة في مدينة عدن في ذلك التاريخ وتكوين الدولة بعد رحيل المستعمر البريطاني حتى يسهل علينا التعامل مع أخواننا في الجنوب، وفي المشهد السياسي الحالي.. أليست الوحدة اليمنية كانت إنقاذ لهم.. فيا أخواننا أبناء الجنوب لا تحولوا الوحدة اليمنية نقمة علينا نحن أبناء الشمال..

هكذا كان عمر الجاوي
-      قصة تعيين المرحوم عمر الجاوي مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون:
حكى الأستاذ/ فضل النقيب في الكتاب الذي نُعرف به في هذا المقال، أنه في صباح يوم استثنائي كان مختلفاً، فقد هبط على متن سفينتنا (الإذاعة والتلفزيون) التي كانت تترنح تحت القصف والقصف المضاد للنفوس المتنمرة والأرواح المتوثبة، والمصالح المتقاطعة، نورس بالغ الجمال وربان مقاتل من الطراز الأوّل، هو (عمر الجاوي) الذي عيّن مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، ولم يكن من الحزب الحاكم، كما لم يكن موظفاً عاماً يمكن أن يؤمر فيأتمر، لذلك فقد هيّأ مسرح القتال منذ لحظة هبوطه، ولم نعرف معه طعم الراحة أبداً، ولكننا عرفنا مجد التحدي وتعلمنا فنون الاقتحام… تقول له: هذا جبل يا عمر، فيقول لك: عيب، حد نظرك.. انا ابن عبدالله، هذه غيمة هشة دق راسك براسها، وحين تعود إليه بدمّك يقول لك: “هكذا الرجال، ذي ما يكسر ظهرك، يقوّيك”.
عمر الجاوي الذي درس في طنطا وموسكو، وكان زعيماً طلابياً بارزاً وأحد أبرز قادة الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يوماً، كان رجلاً قصير القامة برأس أصلع وعينين مغناطيسيتين جاحظتين، وصوت جليل حين يتكل بأداء موسيقي أخاذ مطرز بالشعر والحكم والأمثال الشعبية، كان يسارياً باللسان، شعبياً تراثياً بالوجدان، إنسانيا في الأعمال، إنه بالضبط الذي عناه الشاعر بقوله: ترى الرجل النحيف فتزدريه / وفي أثوابه أسدٌ هصور.
قام الجاوي دون الرجوع إلى الوزير والوزارة بتشكيل مجلس للإذاعة والتلفزيون، وعيّنني نائباً له ومديراً للإذاعة (دون معرفة سابقة، ودون استحقاقات مالية) وكان أول قرار اتخذه حرمان نفسه من راتب المدير العام، والتنازل عن صلاحياته المالية للمسؤول المالي (عيب نوسّخ أنفسنا بالفلوس) ثم اقذفوا بكتّاب التقارير ولصوص المهنة في الشارع، فإن لم تستطيعوا فأقفلوا عليهم في الغرف الخلفية المظلمة…
وهكذا دخلت مع عمر الجاوي في نفق لم أكن أعرف ما ينتظرني فيه، ولكنه كان مليئاً بالإثارة والتحديّ والكبرياء، فإذا كنت مع (العميد) في قلب زوبعة، فإنني مع (الجاوي) على جناح عاصفة لا تهدأ ليل نهار.
في أول اجتماع للمجلس الجديد للإذاعة والتلفزيون بعدن والذي ذكرت بالأمس أن (عمر الجاوي) شكّله دون الرجوع إلى وزير الإعلام آنذاك (المرحوم/ عبدالله الخامري) ودون أن يحفل قليلاً أو كثيراً باللوائح، تمكن عضوا المجلس (علوي السقاف) و (خالد محيرز) من إقناع عمر بعدم التنازل عن صلاحياته المالية لأن (المال عصب العمل، وأهم سلاح في يد المدير العام) وكذلك فيما يتعلق براتبه (فلك الحق أن تتبرع به أو تفعل به ما تشاء ولكن ينبغي أن تقبض الراتب وحسب الأصول).
خلال الاجتماع جاءنا من يقول أن الملحق الثقافي في سفارة ألمانيا الديمقراطية ينتظر مقابلة المدير العام، فإذا بالجاوي يقفز مثل (الجني) إلى الباب ليمنعه من الدخول، كيف سمحت لنفسك أن تأتي بلا موعد؟ ثم ما هذه الأشرطة التي تحملها؟ شرح الألماني تحت وقع الصدمة والمفاجأة أنه مرسل من مكتب الوزير، وهذه الأشرطة التلفزيونية هي لتعليم اللغة الألمانية بناء على اتفاق موقع على أعلى المستويات….
خرج الجاوي عن طوره وطلب من أحد الموجودين إخراج الأشرطة خارج الغرفة: “دعني ألقن هذا الخبير درساً، يا حضرة الملحق الألماني، إن شعبنا يرغب في أن يتعلم لغته العربية الفصحى، ونحن في سبيل الإعداد لذلك على أشرطة مثل أشرطتك، ثم سنعلّمه اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الثانية في هذا البلد، وأظنك تعرف أن عدن كانت مستعمرة إنجليزية حتى ما قبل 3 سنوات، وبعد ذلك سنعلّه اللغة الروسية، اللغة الأم للمعسكر الاشتراكي التي أجيدها أنا وأنت، وعندما يتقن شعبنا هذه اللغات الثلاث تماماً، فستفكر في مشروع تعليم اللغة الألمانية.. عد إلى الوزير وقل له أن (عمر الجاوي) يقول إن اللغة الألمانية لن تمر إلاّ على جثته”.
بهت الألماني الذي لم يتعود مثل هذه اللغة، فانسحب دون أن ينطق بكلمة، وكان هذا الموقف العامل الثاني من عوامل الحرب بين مجلس إدارة الإذاعة والتلفزيون ومديرها العام وبين الوزارة ووزيرها.
لم يكن الجاوي يملك سيارة، وفي الوقت نفسه يرفض استخدام سيارات الإذاعة والتلفزيون، وكنا في طريقنا إلى الشارع عقب الاجتماع للبحث عمّن يقلّنا على طريقة (الأوتوستوب) فصادفنا (ضرار عبدالوهاب) مراقب البرامج الذي أوقفه الجاوي عن العمل منذ أول يوم وهو رجل خطير له أبعاد وأعماق، فخاطب الجاوي بقوله: “باين عليك ناوي (تعصدها)” فقال الجاوي: “أيوه… ولكن في بطنك”.
أول ما وقفنا على الرصيف توقفت لنا سيارة، ولدهشتي كانت سيارة (العميد) عبدالوهاب الباري الذي لم أره منذ عدة أشهر، والذي انفجر أول ما شاهد الجاوي: “أنا يا عمر يشنّعوا عليّ ويسمّوني (عبدالقات عبدالبوري) (رأس النرجيلة)”… أخذ عمر في تهدئته بينما العميد يدوس على (البريك) و (الكلاتش) في ضربات سريعة متتابعة.. .طيب على كيفك، مافيش قطع غيار في البلاد… قال العميد: “بافرجّك انتقامي”.
أزاح العميد سجادة من على (البريك) والكلاتش حيث ألصق صورتين لـ (لينين) و (ماركس) أخذ يدوس عليهما، علّق الجاوي: “لا حول إلا بالله، با يخلّوا نص شعبنا مجانين”.
وواصل الأستاذ/ فضل النقيب حديثه عن عمر الجاوي حيث ذكر أن عدن كانت في مطالع السبعينات من هذا القرن تغلي في فوهة بركان، وقد أخذ الناس يتحولون إلى أشباح، وجوهٌ مصفرة، أجسادٌ هزيلة، عيونٌ زائغة، شعورٌ منكوشة تجلّلها الغبرة، وأخذ الكثيرون من الناس والعائلات المستورة يهيمون على وجوههم بحثاً عن لقمة تسدّ الرمق بعد أن شحّت الموارد عقب التأميمات التي شملت كل شيء والتي لم تفد الدولة في شيء، اللهم مدّها بمسكنٍ مؤقت لا تدري متى ينتهي مفعوله وقد لا يظهر له مفعولٌ أبداً.
وكان الصحفي المرموق صاحب القلم الساخر (صالح الدحّان) يسمي الحكومة: (حكومة الربع ساعة) ليش يا عم صالح؟ افهمها يا أهبل، إنهم يخططون لربع ساعة قادمة، فإذا نجحوا واجتازوا الربع ساعة بسلام، صفّقوا من الفرح وأطلقوا خطة الربع ساعة الثانية… مهزلة… ثم يؤكد العم صالح أن فنجان الشاي الذي يشربه يكلف الدولة 10 فناجين… كيف؟ شوف اللي على الطاولة المجاورة والذي هناك… وذلك الذي في الركن، كل هؤلاء يراقبون (عمك صالح) وهات يا أكل ويا شرب على حسابي، وفي الأخير كلنا (مفاليس) تذكرت تعقيب عمر الجاوي على انفعال (العميد) وإحساسه أنه مطارد: “لا حول إلاّ بالله… با يخلّوا نص شعبنا مجانين”.
وسط هذا البلاء العظيم كانت (الماكينة) الدعائية تبيع قسائم الجنة في الدنيا وتمنّي الناس بالمنّ والسلوى، بس… بعد أن نقضى على أمريكا وحلفائها وعلى (الثورة المضادة)، ولكل أجلٍ كتاب، ولا أدري أي ذهنٍ عبقري تفتق عن فكرة إنزال الناس إلى الشوارع لتثوير الجماهير، وإرهاب الطابور الخامس، وما عاد للناس من شغل شاغل إلاّ المسيرات بالفؤوس والعصي والطّبل والزّمر، و “سالمين نحن أشبالك وأفكارك لنا مصباح، وأشعلناها ثورة حمراء بعنف العامل والفلاح” لم تعد البلد تنتج أيّ شيء سوى الشعارات.
تحوّل مبنى الإدارة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى ملاذ لأصناف مختلفة من البشر كلّهم يجرون وراء عمر الجاوي للمساعدة أو لحل مشاكلهم المالية أو التوسط للإفراج عن معتقل، أو السؤال عن مفقود، وتجدهم يقعدون بالساعات في مكتبه وفي الممرات وعلى الدرج وفي الباب الخارجي… وأخذ الجاوي يغرق في هموم الناس ولا يجد من ينقذه هو من الغرق.
أخيراً نتسحّب أنا وعمر مثل لصين هاربين بعد أن نكون قد ضمنا وجبة غداء عند أحد الأصدقاء حيث نجد هناك بعض مريدي عمر الذين ما أن يهلّ عليهم كأنه خارج من (اليم) حتى يقفوا صفاً واحداً ينشدون النشيد الذي ألفو ولحنّوه خصيصاً لوليّهم: “عمر الجاوي أتى … عمر الجاوي ذهب… عمر الجاوي حديد… عمر الجاوي ذهب”.
ثم تحدث الأستاذ/ فضل النقيب عن الشاعر الكبير المرحوم/ محمد سعيد جراده بقوله: كنت أعرف أن شاعرنا الكبير محمد سعيد جرادة مستور الحال، على أساس الحكمة الشهيرة: “أشاعرٌ ومال… ضربٌ من المحال” ولكنني لم أكن أعلم أن ذلك ألذي أثرى وجدانات الناس بأنفس أنواع اللالئ المشعة من الشعر يعيش في ذلك الفقر المدقع، فقد زرته في بيته عقب طبخة (صانونة الموز) الشهيرة، وأقول بيته من باب المجاز وتسمية الشيء بضده، وإلاّ فهو شيءٌ أشبه بعش (اللقلق) المعلّق… حاجة مثل القبعة على رأس (شمّاعة) تصل إليها بسلم خشبي تئن مفاصله كأنما صنع منذ أيام (دقيانوس)… كيف استقرّ على هذا النحو؟ هذا من باب المعجزات.
إذاً… الجرادة هو الوحيد من قبيلة الشعراء والمثقفين الذي لن يفقد شيئاً، ولذلك بينما كان المكلومون يئنون كان يلتقط المفارقات يسرّي بها عن نفسه وعن الآخرين… أهذا بيتك  يا أستاذ؟ ياله من قصر منيف تركض فيه الخيل… أضفت: “أنا لا أخشى الصعود… ولكن كيف النزول؟!” رد عليّ بأنني لم أر شيئاً بعد، فثمة الفرش والطنافس والعدد والديكور المبهر الذي سأراه في الداخل وأخذ يردد أبياتاً من الشعر:
ورب فأرة بالقرض ليلاً / متى ما رمتُ نوماً أزعجتني / إذا شعرت بيقظتي استكنّت / وإن شعرت بنومي أيقظتني / أقول لها أقرضي وكلي نهاراً / وفي الليل اتركيني واستكنّي.
تذكرت ساعتها قصيدة الجرادة (لقاء) التي يشدو بها الفنان الكبير المرحوم محمد مرشد ناجي، كم من القلوب أسعدت، وكم من الصبايات أثارت، وكم تناجى بها العاشقون، بينما صاحبها يتجرّع البؤس في هذا الجحر.
يا حبيبي أي عيد أي سعدٍ / سوف تبقى هذه الليلة عندي / عندنا ورد حكى رقة خد / ومدام أشبهت فرحة وعد / وفراش ناعم المخمل وردي / وأحاديث صبابات ووجد / سوف أحيا هذه الليلة وحدي / وسيحياها رواة الشعر بعدي.
كان الشاعر الأستاذ/ محمد سعيد جرادة الساكن بحارة (الهاشمي) أحد نجوم مدينة (الشيخ عثمان) لم يُحنِهِ البؤس والفقر ولم يلو الزمن ذراعه الشعرية الطائلة، وكان الجميع يلقبونه بـ (الأستاذ)، وحين شحّت الأرزاق، وهانت الأعناق، وتطلع أكثر الناس إلى الانعتاق في عدن مطالع السبعينات كان الأستاذ يبسط الأمر على النحوي التالي:
“قصتنا مع (الجماعة) مثل قصة صاحب الدبّ الذي كان يحبّه حباً لا شك فيه، ولكن على طريقة (الدّببه)، فحين رأى ذبابة على وجه صاحبه أخذته الحمية والغيرة فأراد إبعادها بل وتأديبها، فما كان منه إلا أن لطم وجه صاحبه مقتلعاً عينيه وأذنه وأنفه، تعبيراً عن (الحب العظيم).
ذكريات المرحوم الأستاذ فضل النقيب مع الشاعر الكبير الفلسطيني/ محمود درويش
ومن ذكريات المرحوم الأستاذ/ فضل النقيب عن لقائه بالشاعر الكبير الفلسطيني/ محمود درويش ( المولد والوفاة                 )، وذكر قصة لقاء الشاعر محمود درويش مع محافظ لحج في ذلك التاريخ/ عوض الحامد، وقال: وقفنا أمس مع (محمود درويش) على مائدة محافظ لحج (عوض الحامد)… وللحق فإن محمود قد انتابه ذعرٌ شديد بعد أن رأى المحافظ ينقض على المصور التلفزيوني المسكين حتى انبطح الاثنان أرضاً، ولا يخفى على فطنة القارئ العزيز أن العم (عوض) كان مدججاً بترسانة سلاح… صحيح أن الرشاش لم يكن بيده وإنما مسنداً إلى الجدار بجانبه، ولكن المسدس وعدّته إضافة إلى عدد من القنابل اليدوية كانت مخبأة في سائر أنحاء جسده بجانب كم السلاح المهول مع المرافقين الذين كانوا محيطين بنا إحاطة السوار بالمعصم. وتصوّر – يا سيِدي- لو أن قنبلة واحدة فقط سقط عنها صمام الأمان أثناء قفزة المحافظ الشرسة، إذاّ لكنا رحنا فيها (فطيس) ولكانت الأمة العربية قد فقدت أعظم شعرائها ولما كنت أكتب لكم هذا (المسلسل) اليومي على حد تعبير صديقي (علي شعنون).
ولأن ما خفي أعظم، فقد كان المحافظ (عوض الحامد) يخبئ للشاعر درويش مفاجأة مدويّة هي بمثابة (الحلاية) بعد تلك الوجبة الدسمة التي كدنا أن نفقد بسببها حياتنا، فبعد أن أشعل السيجار الكوبي، ومجّ نفسين نفثهما في وجه (درويش) الذي بلا شك كان يفكر في طريق للخلاص من هذه (الورطة الفجائعية) أمر المحافظ أحد مرافقيه بإحضار (المجلدات) من السيارة.
همس محمود في أذني: “أية مجلدات” “والله ما أدري” سألني: “ما فينا نرجع على عدن؟” “والله يا سيدي الضيف في حكم المضيف… وما دمت في حضرة (عوض الحامد) فوكّل أمرك إلى الله”.
جيء بالمجلدات فأبلغ المحافظ ضيفه أنه قد نظم كتاب (رأس المال) لماركس شعراً، وأنه في هذه المجلدات يوجد هذا الكنز الثمين، وأنه سيقرؤها من الجلدة إلى الجلدة على (محمود) ليسمع رأيه ومداخلته وما قد يرتئيه من تحسين هنا، أو إصلاح هناك. وكاد (محمود) أن يصاب بالإغماء لولا أنني أسرعت بإسعافه إلى السيارة وأنا أؤكد بالإيمان المغلظة للعم (عوض) بأننا سنعود غداً منذ الصباح الباكر لنكون تحت أمره، ذلك أن الشاعر لا بد له أن يتحضر لأمسية شعرية في سينما (بلقيس) بعدن.
هذا ما كان من أمر (محمود درويش)… أما ما كان من أمر (عوض الحامد) فقد ترك المحافظة في فترة لاحقة واعتزل الناس، ثم احترف الصيد، وكان يعرض الأسماك الكبيرة للبيع بأسعار أقل من الصغيرة، فإذا سؤل عن ذلك قال إن الجهد المبذول لصيد الكبيرة أقل منه لصغار الأسماك، ثم يقول لسائله: “يا حمار… هذه الكبيرة خلاص ما راح تتعلم شيء، أما الصغار فتستطيع تربيتهم على كيفك”، وكان يقطع المسافة من (الشيخ عثمان) إلى (خور مكسر) حافياً، فإذا وقفت له سيارة يرفض الصعود قائلاً أنه مستعجل، ولم يكن به مسٌّ أبداً، إنما هو العقل في أفضل حالاته تجلياً، والدليل أنه صعد الباص المتجه إلى (عدن الصغرى) وأوقفه في منتصف الطريق، ثم أمر الركاب بالنزول فنزلوا، وأمرهم بالصعود فصعدوا، فبصق في وجوههم وهو يقول: “الله يلعنكم من محكومين… ما في واحد منكم سأل ليش ننزل وليش نصعد، ما حد قال يمكن الذي وقف الباص مجنون”… وهكذا تركهم وعاد ماشياً على قدميه.

بعض من ذكريات المرحوم/ فضل النقيب مع الرئيس المرحوم/ سالم ربيع علي
تجلّى (يوم الغربان) الذي أشرت إليه في زاوية الأمس عن أسرارٍ عجيبة، أولها أن غربان (عدن) قد اتخذت من منطقة (دار الرئاسة) مقراً مركزياً لها وذلك بسبب كثافة الأشجار هناك، الأمر الذي كشف عن موت الأشجار في بقية أرجاء العاصمة بسبب الإهمال نظراً لانشغال الجميع بالأعمال الثورية بما في ذلك عمّال البلدية.
وثانيها أن الغربان قد توحشت بسبب انعدام الأكل الفايض عن أرزاق الناس والذي تعوّدت عليه في فترات سابقة الأمر الذي دفعها للقضاء على سائر أجناس الطيور الأخرى، لأن المجاعة وصلت مستوى (قطع الرأس ولا قطع المعاش)… و (يا روحي ما بعدك روح).


وثالثها أنه في (يوم التسجيل المشؤوم) كان أحد الوافدين الجدد على دار الرئاسة من الأطفال الذين لا يعرفون طباع (غربان المدينة) قد أمسك بأحد فراخ الغربان الصغيرة وأخذه معه بـبراءة ليلعب به داخل القصر وكان ذلك سبب (عاصفة الغربان) التي لم تنته إلاّ بإطلاق سراح الطفل الغرابي الأسير بعد تدخل من قائد الحرس الجمهوري آنذاك (حامد مدرم).
ورابعها أن الرئيس سالم ربيع علي قد تفهم (الظروف الموضوعية) لفشل التسجيل الإذاعي، فلم يأخذ على خاطره ولم يستمع إلى أصحاب (نظرية المؤامرة) التي كانت رائجة آنذاك، وبذلك سلمت من العقاب، وعدت إلى عملي معززاً مكرّماً. وقد اغتنم عمر الجاوي المدير العام للإذاعة والتلفزيون أول فرصة سنحت ليثبت للشامتين أن اختياره لي كمدير للإذاعة لم يكن من باب قصر النظر، ولكنني – مع الأسف الشديد- خيّبت ظنه دون قصدٍ مني، وإنما هو سوء الحظ واضطراب الأوضاع الثورية العربية آنذاك.
وتفصيل ذلك أن الرئيس المرحوم سالم ربيع علي قرر القيام بأول زيارة له خارج البلد إلى ليبيا بدعوة من المرحوم العقيد معمر القذافي لحضور الاحتفالات بمرور عام على جلاء الأمريكان من قاعدة (هويلس).
وقد ذهبنا في طائرة مدنية كانت متجهة إلى القاهرة حيث تم وضع ستارة تفصل الرئيس والوفد (17 شخصاً) عن باقي الركاب وكان من ضمن الوفد وزير الخارجية آنذاك علي سالم البيض الذي أجهد نفسه طوال الرحلة محاولاً إقناع الرئيس أن الأردن بالنسبة لفلسطين وهي بمثابة فيتنام الشمالية بالنسبة لفيتنام الجنوبية، وأن من الضروري أن يكون هذا العمق الاستراتيجي بيد قوة ثورية ليمكن تحرير فلسطين.
وكان الرئيس يهزّ رأسه دون إيجاب أو نفي، وقد حاولت مراراً التدخل بناء على تحليلات كتبها آنذاك المرحوم الأستاذ/ محمد حسنين هيكل تفند هذه النظرية، ولكن الرئيس لم يكن يدعني أسترسل، وقد علّمتني الحياة بعد ذلك أن حلمه معي كان عظيماً، لأنه أساساً لم يكن يعرف من أنا ولا ما هي مهمتي في الوفد، وقد أبلغني بذلك المرافق العسكري أحمد صالح حاجب الذي سحبني إلى آخر الطائرة وهو يقول لي: “يا داخل بين البصلة وقشرتها…الخ” وقد فهمت الرسالة.
أما كيف فشلت مهمتي فشلاً ذريعاً، فذلك ما سوف أفصّله غداً

حكومة القطيع
أورد الأستاذ المرحوم/ فضل النقيب قصة ظريفة لها دلالتها عن (حكومة القطيع)، جرت له هذه القصة بحضور المرحوم/ عمر الجاوي بقوله: أصبح الجاوي حائراً في توضيح الوضع حتى جاءني ذات يوم أحد أقاربي الساكنين في الأرياف (قاسم ناجي صالح) فسأله الجاوي: “كيف تشوف أحوال البلاد يا والد؟” ردّ عليه: “شوف يا ابني… أنا (متسبّب) على باب الله، وعندي (صندقة) صغيرة في رأس جبل بيافع، وأمس من بعد صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وأنا أتنقل من (طابور إلى طابور) فقد كان يوم توزيع (الشمبلات) (النعالات البلاستيك) وقد وزّعوا علينا من واحد في طابور (الخساف) من اثنين في طابور (السوق الطويل) ومن ستة في طابور (القطيع)… وحسب تفكيري وأنا رجل أمّي ما أفهم في السياسة إن عدن لوحدها فيها (3) حكومات أحسنها حكومة (القطيع) أم ستة (شنبلات) وأنت أحسب كم حكومة في باقي البلاد.. هذا هو الحال يا ابني…”. ضحك الجاوي حتى اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول له: “الآن حلّيت فزّورة اللي أكلت مخي يا والد…”.
وظل الجاوي بعدها يسألني دائماً: “وين صاحب حكومة (القطيع)؟ سلّم لي عليه الله يرضى عليك”.
زواج المرحوم عمر الجاوي بثريا منقوش
أخيراً… حصحص الحق، فقرر عمر الجاوي المدير العام للإذاعة والتلفزيون بعدن الزواج، وهو من مشاهير العزاب في المدينة، ولم أعلم إلاّ بعد ذلك بسنوات أنه كان متزوجاً من (روسية) في (موسكو) وأن له منها ابنة وحيدة.
أمّا (المحظوظة) فكانت (ثريّا منقوش) وهي من هي في ذلك العصر والأوان… خريجة جامعية، طول في عرض لدرجة أنها إذا ضبطت تسير بجانب الجاوي يبدوان مثل رقم (10)، وطبعاً هي الواحد، ولذلك فقد كان يتحاشى السير معها.
إضافة إلى ذلك، كانت ذات شخصية هجومية كاسحة، وذات بأس وعنفوانٍ شديدين، فقد كانت عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تدرّبت في ميادين القتال، وجابت بلاد الشام برجليها، وعرفت الضبط والربط والتمرّد أيضاً.
وكان لديهما اهتمام كبير بالبروز الإعلامي، فهي ضيفة دائمة في مختلف البرامج (تهبش) في رقبة هذا، أو تضع أصابعها في عيني ذاك، وكانت إذا مرّ شهر ولم استضفها في برنامجي التلفزيوني المفتوح (فنجان شاي) تتصل بي مؤنبة ومقرعة، وكأن ذلك حقٌ من حقوقها التي لا تغض الطرف عنها.
المهم أن الأخت (ثريا) قضية ما تحمّلها ملف، كما يقول شاعرنا (المحضار)، وحتى لا أنسى، أشير إلى أنها كانت موجودة في بيروت أثناء الغزو الإسرائيلي، فقصف الطيران الإسرائيلي المبنى الذي كانت فيه وكانت هي الوحيدة التي خرجت سالمة من بين الأنقاض، وأثناء اسعافها على النقالة جرى قصف آخر فقُتل المسعفون وسلمت هي، إلاّ أنها على ما يبدو – والله أعلم- أصيبت بارتجاج في المخ من نوع ما، لأنها منذ ذلك الحادث تدعي أنها تتلقى وحياً وإشارات وعلى كل حال فتلك قصة أخرى.
سألت الجاوي عن الأسباب وراء هذا القرار الخطير… فقال لي: “ما انت شايف الوضع، يوم عند عمّنا عبدالكافي طبّاخ (الكريسنت هوتيل) ندخل مثل اللصوص ونخرج شمّ الأنوف، ويوم عند الحاج عبدالوهاب ونائبه عبدالعزيز في مطعم الشموع بخور مكسر، نشارك عمّال المطعم غداءهم، ويوم في بيت صالح الدحّان لما طفشت منا زوجته (سعادة) ويوم نضرب مشوار إلى (الوهط) في لحج يمكن نحصل عند اخواتي كسرة خبز وقليل قهوة، المهم يا سيدي الزواج ستر، لقمة وهدمة، وثريا كفوة وبنت ناس، وكما ترى مقاتلة من الطراز الأوّل.
قل يا سيدي كلّفنى (العم عمر) بمهمة (الخطوبة) وقمت بذلك على ما يرام، وتمت الخطوبة، بدون قيدٍ أو شرط، لأنه لا يتصوّر وجود من يشترط على (الجاوي) وقد عجز عن ذلك الوزراء الزعماء والرؤساء، وكانت المشكلة لإتمام الزواج أن شقة الجاوي احتلها رفيق دربه القادم من الشمال آنذاك (عبدالله الصيقل) ولا يمكن للجاوي تحت أي ظرف من الظروف أن يطلب من صديقه إخلاء الشقة، ولو كان في الأمر (قطع رقبة) فهكذا هو عمر الجاوي، ولا يطلب مني أحد تفسيراً لذلك، وقد كانت (ثريا) تتلمّظ مثل النمرة على الشقة ولكن هيهات، وكانت حذرة إلى حدّ ما لأنها لم تسبر بما فيه الكفاية أغوار الجاوي، ومهاويه السحيقة… أما كيف تمّ الزواج، فذلك ما سنفصّله غداً.

الأخ ثريان
تحت هذا العنوان أورد الأستاذ المرحوم/ فضل النقيب قصة إطلاق الشاعر المرحوم/ عمر الجاوي لقب (الأخ ثريان) على زوجته الأستاذة/ ثريا منقوش، فقال: عطفاً على زاوية الأمس حول قرار (عمر الجاوي) بالزواج، واختياره للأخت (ثريا منقوش) شريكة حياة، والتي نسينا أن نقول إنها كانت تعمل آنذاك مدرّسة في الثانوية، وفي الوقت نفسه تكتب للصحف، وتعمل على التأليف وتخوض فيما يخوض فيه سائر البشر المسيّسون في تلك الحقبة الاستثنائية. تدبّرت أمر شقة مؤقتة تعود لصديق يعمل في السلك الدبلوماسي، وتقع في شارع (المعلاّ) الرئيسي، وقد تمّ الزفاف بلا حفل ولا مدعوّين، فبعد العقد هرعنا أنا وعمر إلى سيارة العروس التي أخذت تسير بها الهوينى، وتوقفت أمام مطعم في شارع (الزعفران) بكريتر حيث بيت أهلها فاشترت دجاجة مشوية من حرّ مالها لزوم العشاء مع بعض المشروبات الباردة.
وكان الجاوي قد منّاني الأماني بأن موائد (المنّ والسلوى) ستكون إحدى نتائج هذا الزواج المبارك، وأن أيام الصعلكة قد ولّت إلى غير رجعة… وهل أجمل – يابن النقيب- من أن تفتح عينيك على القهوة الساخنة يليها الفطور المعتنى به، ثم تجد ملابسك مكويّة وما عليك إلا أن تلبسها لتذهب إلى العمل نشيطاً مبتهجاً، وللأسف الشديد، فإن أحلام عمر الجاوي الإنسانية البسيطة قد ذهبت أدراج الرياح، وأصبحت أثراً بعد عين.
ذهبنا إلى العمارة الشاهقة وكانت الشقة في الطابق السادس والمصعد لا يعمل شأن سائر عمارات ذلك الشارع الذي كان مفخرة المدينة، كما أن خدمات إضاءة السلالم وجمع القمامة  قد توقفت وفقاً لسياسة (أنا أمير وأنت أمير، فمن يسوق الحمير؟)… وهكذا أخذنا ثلاثتنا نخوض في بحر من الظلام والحفر والنتوءات وكانت ثريا تتقدمنا بعنفوان مقاتلة في ليلة عرسها، فكانت تسحب الجاوي وهو يسحبني حتى أدمتنا، فصرخ الجاوي من قلبه: “يا أخ ثريا، شوية شوية، مش هكذا يسحبون حمران العيون”.
ردّت ثريا بغضب: “أخ.. بدينا يابن الجاوي” قال: “أيوه.. وعادنا با اذبح (البسّة) كمان… إيش فاكره الدنيا سايبه”. أعطيت الشنطة للجاوي ونزلت أتسحّب في الظلام الدامس، فقد خفت أن تشتعل الحرب وأعلق فيها.
بعد ثلاثة أيام جاءتنا (ثريا) للإدارة العامة للإذاعة والتلفزيون، وكنا نتحدث في العمل فخاضت في الحديث كعادتها فصرخ الجاوي: “يا أخ ثريا با أقطع لسانك لو تدخلت في العمل”، ومنذ ذلك اليوم أصبحت الأخت ثريا منقوش (الأخ ثريا) وعلى كل لسان وبقدر ما كانت تبرطم في البداية أصبحت تأخذ على خاطرها وتزعل إذا لم تقل لها يا “أخ” في المراحل اللاحقة.
اللطيف في الأمر أن الجاوي قال لي ذلك اليوم بعد أن هرش صلعته الشهيرة: “أعمل لفّة يابن النقيب (للكريسنت هوتيل) شوف عمك عبدالكافي إذا كان يقدر يدبر لنا غداء يسدّ جوعنا”… ظننت أن الأمر له علاقة بغضبة على ثريّا.. ولكنه أضاف، وثريا معنا كمان، قلت له: “وأين المنّ والسلوى، واللقمة والهدمة؟” قال: “انسى هذا كله… الأخ ثريا لم يدخل في حياته المطبخ أبداً، ولا ينوي أن يفعل ذلك، وهو يشتغل زعيم وبس، وأنا زعيم، وما أظن عدن تتسع لي ولها”.
وصرنا منذ ذلك اليوم نتصعلك ثلاثتنا وغلبتنا (ثريا) بقدرتها على التجوّل الحر في مطابخ مضيفينا من عباد الله الغلبانين الذين دعوا عليها وعلى عمر وعلى الخاطب الذي بين رأسين بالحلال.

قصة ذهاب الأستاذ المرحوم/ فضل النقيب والمرحوم الأستاذ/صالح الدحان إلى صنعاء
من الأرواح المعذبة في متاهة سبعينات عدن شيخ الصحافة اليمنية صالح الدحّان، الذي حاولت مراراً رسم صورته بالكلمات، ولكنه دائماً يروغ من بين يديّ كما يروغ الزئبق، وأشهد أن لا أحد قاوم الموت حتى تخاله استعصى عليه كما فعل شيخنا الدحّان، قاومه بحب الحياة كأنما هو (زوربا) اليوناني في رائعة (كازنزاكيس) و (أنتوني كوين) قاومه بالسخرية المرة وقد رويت لقراء هذه الزاوية بدائع من تخريجاته ذات يوم، وسأروي لاحقاً ما يحضرني هذا اليوم، قاوم الموت أيضاً بالكلمات واللعب عليها كأيّ موسيقي خبير بالأوتار يدوزنها وهو مغمض العينين، وقاوم الموت بالأسفار حتى وصل إلى (بكين) في الصين أيام الثورة الثقافية العظمى وماوتسي تونج، ليس سائحاً ولا موفداً، وإنما معلّماً، يعلّم الصينين أصول الترجمة إلى الإنجليزية ، وكان مزاملاً للروائي الكبير حنّا مينا، وقد شهدت ذات يوم لقائهما في بغداد، واستعادتهما لذكريات المرحلة الصينية.
وبعد الحرب اليمنية الأولى التي أعقبت مجزرة شيوخ الشمال التي أشرت إليها في زاوية الأمس رافقت شيخنا صالح الدحّان كصحافيين ضمن أول وفد ذهب إلى صنعاء من عدن، وكان برئاسة عبدالله الخامري وبحضور وزيري خارجيتي الجزائر وليبيا، وعلى إثر انتهاء تلك المباحثات التي لم تسفر عن شيء ملموس لأن المسألة كما يقول إخواننا اللبنانيون “ليست رمّانه، وإنما قلوب مليانة”، وبعد أن تقرر فتح مكتبين في كل من صنعاء وعدن، رأى الخامري أن لا أحد أصلح من صالح الدحان لتمثيل عدن، وكان قد قدّر أنه أصاب عصفورين بحجر واحد، فقد ارتاح من لسان صالح، وأسند إليه عملاً يمكن أن يفجر مواهبه الكثيرة المكبوته… ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ذلك أنه في أحد الاجتماعات اللاحقة، وبحضور الوزيرين العربيين طلب صالح الدحان الأذن في الحديث فتوجه إلى وزير خارجية ليبيا قائلاً: “هل تصدق هذا الكذاب، مشيراً إلى صاحبه الخامري، أنه لا يريد وحدة ولا يحزنون، ثم استدار إلى الجانب الآخر، وهذا الكذاب أيضاً، مشيراً إلى عبدالله حمران وزير الوحدة في شمال الوطن آنذاك”، وبينما بهت الجميع وصاح شيخنا قائلاً للوزير الليبي: “يا أخي العزيز، اصرف لي 6 ملايين دولار، وأنا أعمل لك انقلابين، وأوحّد هذا البلد المنكوب”، وخرج وهو يصرخ: “بطلوا كذب على دقون الناس”.
وقد تعرّفت عبر صالح الدحان آنذاك على محمد أحمد نعمان الذي كان وزيراً للخارجية ولم أرى صالح ينجذب إلى أحد كما كان ينجذب إلى (الغوبة) كما يسمي صديقه النعمان، ومعناها العاصفة الترابية التي تسدّ الأفق، وكان محمد كذلك فعلاً بحيويته وطاقاته الهائلة على الحوار وقد اغتيل لاحقاً في بيروت وعندما نعي إلى والد الزعيم الحكيم أحمد محمد نعمان قال: “أما محمد فقد ذهب إلى ربه، إن خوفي الحقيقي أن يتمّ اغتيال بيروت” وقد كان، أما غسان تويني فقد جعل مانشيت جريدة النهار: “مات رجل الحوار”.

قصة الأيام السبعة المجيدة كما ذكرها المرحوم النقيب وهي في الواقع الأيام السبعة التعيسة
هل أحدثكم عن الأيام السبعة (المجيدة)؟ لقد كانت (أتعس) أيام مرّت على مدينة عدن، تستطيع أن تقول أن العاصمة خلال تلك الأيام قد طُحنت، وخُبزت، وأكلت في دورة حياة أو موت كاملة، فالأمر سيّان حيث لم يعد هناك من فرق.
أخذت تتدفع على المدينة على مدار 24 ساعة جماهير غاضبة من الأرياف (على إيش غاضبة… ماتدري!) يحملون الفؤوس والهراوات والسكاكين والبنادق ينظّمون مسيرات حاشدة هادرة ويرددون شعارات (ثورية) تنادي بـ (تخفيض الرواتب واجب) و (تحرير المرأة واجب) ولكن التركيز كان على تخفيض الرواتب، لأن ذلك هو السكين التي ستحزّ رقبة المدينة التي ليس لدى أهلها أي مصدر للدخل سوى الرواتب، فمن المعروف أن (عدن) أرض بركانية قاحلة لا زرع فيها ولا ضرع، وأنها أقل نقطة في قارة آسيا بأسرها تسقط فيها الأمطار.
وبين عشيّة وضحاها جرى اعتقال حوالي خمسة آلاف موظف بصورة غير قانونية ومن قبل المتظاهرين أنفسهم، ولكن الجهات التي كانت تستقبلهم وتعيد تأديبهم وفق (النهج الجديد) كانت جهات منظمة، وقد أصيبت العائلات برعب لا مثيل له لأنها لم تكن تدري ما مصير المعتقلين المخطوفين هل أصبحوا طعماً للأسماك أم أنهم مازالوا أحياء يرزقون.
طبعاً توقف الانتاج الزراعي في المحافظات المتاخمة للعاصمة فقد كانت الجرارات معها جميع وسائل النقل تحرث مدينة عدن، وكان نصيبنا في الإذاعة غارة مجلجلة بقيادة (شاعر الجياع) علي مهدي الشنواح، وكان أول ما لفت نظرهم التكييف المركزي وكان الجو في الخارج (جهنم الحمراء) فقرر (الشنواح) أن هذه (بورجوازية) لا مثيل لها فتم إغلاق التبريد، مما ألهب الأجهزة فتوقف الإرسال بعد دقائق، فانقعطت عدن عن العالم وفهم كثيرون أن التبريد إذا لم يكن ضرورياً للبشر، فإنه ضروري لبعض الآلات.
في تلك الأيام (المجيدة) اختلفت السُّلطات التي كنا نعرفها، أو أنها هبطت تحت الأرض بانتظار انتهاء العاصفة المدمرة، ولم تظهر إلاّ بعد حين وقد حزمت أمرها في أنه لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد، وبذلك دخلت البلد في نفق مظلمٍ جديد.
من طرائف تلك الأيام أنني ذهبت للغداء في مطعم (التحالف) الشهير، فضبطت (شاعر الجياع) وأمامه بعض الخبز، و (وصلة) لحم يأكل في زاوية مظلمة، وما أن ناديته باسمه وأنا أقول له: “هنيئاً مريئاً يا بن الشنواح” حتى أصيب بخوف وذعر شديدين، فترك اللحم والخبز وخرج يهرول وهو يتضوّر جوعاً بكل تأكيد… لكم حزنت عليه، ولا أزال أشعر بالذنب إلى اليوم لأن المسكين ربما ظن أنني سأكتب تقريراً عن هذه (البرجزة) قد يفقده لقبه الشهير، ومصدر رزقه… ولله في خلقه شؤون.

قصة الاتصال المباشر بين عدن الثورة وصين ماوتسي تونج
كان أول اتصال مباشر بين عدن الثورة وصين ماوتسي تونج قد جرى قبل استقلال عدن عام 1967 حين ذهب كل من علي سالم البيض وعبدالله الخامري إلى بكين سراً عن طريق تنزانيا وهناك قابلا (لين بياو) الذي نصحهما بتدمير كامل البنية والبناء اللذين سيخلفهما الإنجليز لأن في تلك البنية والبناء تكمن عوامل الردة و (بكتيريا) الثورة المضادة ووعدهما بأن الصين الشعبية ستساهم بسخاء كبير في تشييد البنى الجديدة.
وطبعاً عاد (الرفيقان) البيض والخامري يبشران بـ (الثورة المستمرة) والتدمير الوشيك، ويبدو – والله أعلم- أن تلك النصيحة (الثورية) قد كانت إلى جانب عوامل أخرى سيكشف عنها الزمن وراء تغاضي المفاوض اليمني أو تنازله في محادثات الاستقلال التي جرت على عجل في الربع ساعة الأخيرة في (جنيف) عن التعهد البريطاني (المسبق) بتقديم ستين مليون جنيه استرليني على مدى 5 سنوات هي ميزانية (مستعمرة عدن) السابقة.
وكان ذلك المبلغ (الضخم جداً آنذاك) كفيلاً بأن يوجد أرضية معقولة لانتقال هادئ للسلطة ولكنه حتماً سيكون مشروطاً بعوامل استقرار واستمرار من نوع ما، لم يكن وارداً قبولها في ظل عقلية (التدمير) و (الثورة المستمرة)، والحديث الرائج آنذاك من أن عدن تصرف على لندن وقد قاد كل ذلك إلى إبطال دور عدن في التجارة الدولية وكانت ثالث ميناء في العالم ازدحاماً بحركة السفن، كما أدى ذلك إلى اختناقات اقتصادية منذ اليوم الأول للاستقلال وصولاً إلى الأيام السبعة (المجيدة) التي جاءت بنصيحة صينية (أثقل) من نصيحة (لين بياو).
وتفصيل ذلك أن الرئيس سالم ربيع علي قام بزيارته الشهيرة إلى الصين حيث تباحث مع الرئيس (ماوتسي تونج) الذي أبدى استغرابه في توجه ربيع لبناء (مؤسسات ثورية) مشيراً إلى أن هذه المؤسسات ستعيق حركة (الثورة) وتحولها إلى (دولة) مشغولة بهموم الحياة اليومية، بينما الهدف المركزي هو الزحف لتحرير (الجزيرة العربية) بكاملها، وحين يتم الوصول إلى النقطة الأخيرة ربما يكون الوقت قد حان لبناء المؤسسات.
المهم عاد الرئيس إلى البلاد وقد سبقه شعار (سالمين نحو الجزيرة… سالمين قود المسيرة) وكان أن بدأت المسيرة بالاتجاه إلى عدن بدلاً من الاتجاه شرقاً حتى وقف ذلك الصحافي الأجنبي مشدوهاً وهو يرى الناس تطالب بـ (تخفيض الرواتب) وقال: “إما أن هؤلاء مجانين، أو أنني المجنون” ولم يدر أن الذين رفعوا الشعار كانوا بلا رواتب أصلاً وكثر الله خيرهم أنهم طالبوا بالتخفيض لا بالإلغاء.
وقد انتاب الناس الخوف والقنوط حتى إن الشاعر الجرادة سمّانا (شعب ملك الزمان)… وما القصة؟ كان للملك فيل يخرج إلى الأسواق يعيث فيها فساداً، فأجمع الناس على مخاطبة الملك بشأنه، فلما وصولوا إلى بوابة القصر ترأسهم (جوقة ثوار) تصيح: “الفيل”، فيردد الجمهور: “آذانا”، ظهر الملك على الشرفة فصاحت الجوقة: “الفيل”، فانتاب الجماهير الخوف فسكتوا… وحين سأل الملك… ما للفيل؟ قالت الجوقة: “يا مولانا، فيلكم الوديع الطيب، يحتاج إلى فيلة تؤنسه، وقد قرّر شعبكم الوفيّ شراء الفيلة وهو يستأذنكم في البدء بجمع التبرعات”. فابتسم الملك وهو يقول: “بارك الله فيكم… على بركة الله”.
ويضيف الجرادة: “وهكذا بدل الفيل فيلين” ثم يضحك ضحكته الشهيرة ويقفز إلى وسط (الديوان) وهو يصفق ويصيح: “تخفيض الرواتب واجب”.

قصة أركان حرب الرئيس المرحوم سالم ربيع علي
كان أركان حرب الرئيس سالم ربيع علي في انقلابه المثير الذي دشنه بحزم وتصميم بالأيام السبعة (المجيدة) رجال (صماصيم) لهم (شنة ورنة) و (إقبال وإدبار) وأعمال وأفكار، ومن أولئك (فيصل العطاس) محافظ حضرموت آنذاك المشهور بـ (فيصل النعيري) وكانت أبرز إنجازاته تدمير البوابة التاريخية لمدينة (المكلا) عاصمة حضرموت، ونظراً لضخامة البوابة ومتانتها فإنه لم يكن إنجاز التدمير إلا على مدى ثمانية أشهر من العمل الثوري المضني، ذلك أن سلاطين (القعطة) الذين بنوا البوابة قد حرصوا على أن تكون بمثابة قلعة عسكرية، لذلك فإنهم قد اختبروا متانتها عقب إنجازها بقصفها بالمدفعية وقد نجحت في الاختبار أيما نجاح ولكنها أخفقت في اختبار (النعيري) عندما تكاثر عليها الأعداء الذين اعتبروها من رموز (الماضي البغيض).
ومن الأركان (عوض الحامد) الذي حدثتكم عن منجزاته وخاصة لجهة نظم كتاب رأس المال شعراً على طريقة (ألفيّة بن مالك) التي حفظت لنا (النحو العربي) ويقع الخطأ على (محمود درويش) الذي لم يجزه عند زيارتنا له في مقر المحافظة بلحج وإلاّ لكان اليوم ينافس (أدونيس) الذي يعمل على ترشيح نفسه لجائزة (نوبل)… الله يوفقه.
وثمة أيضاً محافظ المحافظة الرابعة (علي شايع) الذي تكشف عن موهبة شعرية في نظم الشعارات والأناشيد الجماهيرية، وقد زرناه في مبنى المحافظة أنا والمؤرخ سلطان ناجي، والشاعر الجرادة وناصر الصبيحي، والشاعر مسرور مبروك حيث حضرنا المهرجان الأول للشعر الشعبي وكنا خلال الرحلة الجوية بطائرة عسكرية قد تعرضنا لمطبّ جوي هائل صرخ من هوله المؤرخ سلطان ناجي دون وعي “فعلوها أولاد الـ…” قد ترسب في وعيه الباطن حادث طائرة الديبلوماسيين الني نسفت في الجو، ولطالما أكلت وشربت وسعدت أيضاً على حساب ذلك الإنسان الطيب النبيل (سلطان ناجي) بحجة أنني سأفشي المضمون السياسي لصرخته وكان يقول لي دائماً: “بطّل يا أهبل… عيب المزاح في هذه الأمور… من شان تضحك وتتسلّى با يطير رأس عمّك سلطان”.
وكان الجرادة يحرّضني أثناء (المقيل) وبيت سلطان ناجي المضياف مليء بالناس فيقول: “على فكره (هاذاك) المطب يوجع لي قلبي من (ذاك) اليوم، إنت ما أثّر عليك يا (فضل)… يقول الكلمة الأخيرة وهو يغمز باتجاه (سلطان) فيحتدم سلطان وهو يعلّق: “اللي يمشي وراء الدجاجة فين باتودّيه غير (المدج)” أي بيت الدجاج.
عودة إلى (المحافظ) علي شايع وكان من أركان حرب الرئيس سالم ربيع علي الذي ما أن علم بوجود (الجرادة) و (مسرور مبروك) حتى هشّ لنا وبشّ وأكرمنا غاية الإكرام، واتضح أنه كان يريد الإجازة الشعرية من الجرادة ومسرور مثلما أرادها (عوض الحامد) من محمود درويش.
لم يتردد الجرادة في إجازته، أما العم مسرور فقد كان يغطّ في شيخوخة عجيبة لا يتذكر منها اسم المحافظ ولو قلته له مئة مرة في الجلسة، وعلى الرغم من أن المحافظة في تلك الأيام العمياء، كانت قد ابتليت بوباء (السحل) بالسيارات وخاصة لرجال الدين والعهد البائد إلاّ أنه (الجرادة) كان يهمس في أذني خلال العزومة الفاخرة: “لا… لا… هذا مش وجه واحد (يقرط) رؤوس لازم في واحد ثاني”.

قصة واقع وزارة الثقافة والمثقفين في عدن بعد الأيام السبعة (المجيدة)
كان أحد القادة الكبار في عدن السبعينات يتلذذ بترداد مقولة منسوبة إلى أحد الطغاة العالميين يقول فيها أنه عندما يستمع إلى مثقف يتحدث فإنه يتحسس مسدسه، ودلالة هذا القول واضحة جداً كمؤشر للتعامل مع هذه الفئة الضالة.
ولست أجد مثالاً بليغاً للتعبير عن هذه المقولة على أرض الواقع من الإشارة إلى أنه في أعقاب السبعة الأيام (المجيدة) تقرر إنشاء وزارة للثقافة بعيداً عن الإعلام لكي تضم جميع (المترهلين) وكنت قد تركت الإذاعة عقب الغارة الشعواء التي شنها عليها المنددون بالبرجوازية بقيادة شاعر الجياع على مهدي الشنواح.
ومن ثم فقد انضممت بدوري إلى هذه الوزارة الجديدة التي كان وزيرها عبدالله عبدالرزاق باذيب بأدبه الجمّ ومزاجه الثقافي وحدبه على المنكسرين المذلين المهانين، وقد حوت الوزارة مشاهير النجوم مثل الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، وزميله أحمد قاسم وصاحب أشجن الأصوات وأكثرها امتلاء بالحنين الفنان محمد عبده زيدي إضافة إلى فريد بركات وسعيد أحمد الجناحي والموسيقار جميل غانم وكوكبة من المواهب التي أصبح لا شغل لديها ولا عمل غير محاولة تأسيس صرح حضاري على أساس من الرمال المتحركة.
كان الشيء الأجمل الذي خرجنا به من تلك الطبخة المدبّرة هو ذلك المبنى الأبيض الجميل الواقع على الزاوية البحرية بين فندق (الهلال) الشهير وعمارة (البينوا) الجميلة حيث كنت أعمل، وكان المرحوم محمد ناصر محمد ألمع الإعلاميين آنذاك قد أسس في المبنى وكالة أنباء عدن قبل أن يصبح سفيراً في بيروت ويقضي في حادث تفجير طائرة الدبلوماسيين، وقد سعدنا من مكاتبنا المطلة على البحر بالحوار مع الأمواج ومراقبة الأفق البعيد حيث تمرق البواخر في المياه الدولية والتي ما عادت تزور ميناء عاصمتنا الاستراتيجي.
وقد نما إلي علما أن (جهازاً) متنفذاً في الدولة قد راق له ذلك المبنى الجميل وأنه يضغط للحصول عليه، ولم نأخذ الإشاعة على محمل الجد حتى جاء ذلك الصباح المشؤوم الذي أكّد مقولة القائد الكبير، فقد ذهبنا إلى الوزارة لنجدها مغلقة بالسلاسل والأقفال أما مكاتبنا وملفاتنا ودواليبنا وجميع متعلقاتنا من الوزير إلى الغفير فقد كانت مرمية في ملعب كرة القدم بالتواهي نهباً للغربان التي كانت تتلهى للبحث عن أي شيء بين الأنقاض، وهكذا تم ترحيلنا إلى مبنى كئيب في أعماق المدينة المظلمة.

قصة اعتقال الأستاذ المرحوم عمر سالم طرموم
في صبيحة أحد أيام أوائل سبعينات عدن اتصل بي عمر الجاوي تليفونيا طالباً مني أن نذهب سوية إلى وزارة الداخلية.. خير إن شاء الله؟ نجري محاولة للإفراج عن أستاذك عمر سالم طرموم (توفي عام 1993م) المسجون من دون ذنب. وما الطريقة؟ في ذهني صفقة ستطّلع عليها في وقتها.
ذهبنا وقابلنا محمد صالح مطيع وزير الداخلية آنذاك ووكيل الوزارة عبدالعزيز عبدالولي الذي كان أحد تلاميذ طرموم في المعهد العلمي الإسلامي بعدن وكان الاثنان أقرب إلى التفهم والتفاهم بل وربما التعاطف، وقد انتهى (مطيع) مقتولاً بتهم لم يظهر عليها أي دليل حتى اللحظة، والثاني عبدالعزيز يقال أنه انتهى مغدوراً بعد نفيه إلى إحدى الدول الاشتراكية،  وكان أحد نجوم الحياة الاجتماعية في عدن، وقد قصّ عليّ عدد من الفنانين منهم أحمد فتحي وسالم بامدهف قصصاً كثيرة عن تعاطفه معهم في تلك الأيام التي كان شعارها: أنا ومن بعدي الطوفان.

المهم أن (الجاوي) دبج مرافعة بليغة حول وطنية عمر سالم طرموم الذي بنى سجن (لحج) حجراً حجراً على ظهره كعقوبة له لمجاهرته بالحق في حضرة السلطان، فكيف لمثل هذا الرجل أن يسجن في عهد الثورة الموجهة ضد أعدائه، وكانت الشبهة هي أن للرجل صلات بتنظيمات إسلامية، ولم تكن مثل هذه التنظيمات قد بلغت ما بلغته اليوم.
أما الصفقة التي وافق عليها الوزير والوكيل حفظاً لماء الوجه فتفضي بأن يقوم عمر طرموم بكتابة تاريخ الحركة الوطنية وأن يلزم بيته لا يزور ولا يزار، وفعلاً تم الإفراج  عنه، حيث دُبّر أمره بعد ذلك وغادر إلى الحديدة في الشمال.
لقد كان عمر سالم طرموم محظوظاً لأنه شخصية معروفة، فقد شهدت في أحد تلك الأيام إحدى المحاكمات (النادرة) لمزارع بسيط من أبناء القبائل الشمالية، ولم تكن هناك أية  قضية ضده سوى أنه وقع تحت الاشتباه ولم يكن يعرف لنفسه هدفاً، وحين سئل في المحكمة ما الذي جاء بك إلى عدن أجاب ببساطة: بلادي وجيت أشوفها… هكذا صنفت وجيت.. ومن سؤال إلى سؤال حتى سأله القاضي فيما إذا كان قد شارك في الحرب الأهلية في الشمال التي دارت بين عام 1962 و 1970 فأجاب بالإيجاب، فقال له مع أي جانب، قال: والله أنا مع قبيلتي، مرة مع الملكيين ومرة مع الجمهوريين حسب التساهيل، قال القاضي: خلينا من المرة حق الجمهوريين، وركز معي على مشاركتك مع الملكيين لأن معنى ذلك أنك مرتزق ضد الوطن. قال القبيلي: والله يا أخي الكل كان يقاتل الكل وقد اتفقنا وتسامحنا وأنا الآن على باب الله أدوّر على رزق لعيالي، قال القاضي وهو يضحك: أنت مش على باب الله يا (قبيلي).. الله جابك على باب الثورة. ظننت أن الرجل سيخرج (براءة) لا محالة، فإذا بالمحكمة بعد التداول تصدر حكماً بالإعدام.
وللمقارنة فقد حوكم أحد رجال القبائل في الشمال بتهمة التحريض على إسقاط الوضع فلما استوضحه القاضي اعترف بما نسب إليه ولكنه استدرك بأن ذلك (كلام قات) وكلام القات في اليمن لا يودّي ولا يجيب، وكان القاضي حصيفاً، فأفرج عنه مع تنبيهه من مخاطر كلام القات وفلتان اللسان ولو وقع في يد قاضينا لكان أصبح في خبر كان.
قصة تدخل اليسار العربي في لبنان الذي كان يمثله في ذلك الوقت نايف حواتمه وميشيل عفلق وجورج حبش وغيرهم
لم يشنّع عامة الناس في عدن السبعينات على كادر قيادي عربي بقدر ما شنعوا على (الرفيق نايف حواتمه) وبالتأكيد فإن (أبا النوف) لم يسمع شيئاً عن ذلك أو أن ما وصله كان مخففاً لأنه كان يلقى القبول الحسن والإنصات الجيد لدى القيادة، وذلك يكفيه ويرضيه.
وحال شعبنا في ذلك حال الأم التي ترفض أن تصدق أن ابنها الذي ربته بيديها وعلى قلبها يقوم بأعمال لا تنم عن تربية طيبة، لذلك فهي تلقي اللوم على رفاقه حتى وإن تأكدت بنفسها أنه رأس العصابة.
على كل حال… نشير إلى أن (الرفيق) نايف كان أول من نظر للخلاف والاختلاف في بلدنا وكان في ذلك منسجماً مع نفسه ولا تثريب عليه، ففي مطلع السبعينات أصدر أبو النوف كتاباً بعنوان (أزمة الثورة في اليمن الجنوبي) ضمنّه إحدى (حتمياته) من أنه لا بد من حسم الصراع لصالح اليسار وقد استشعر القائد البارز فيصل عبداللطيف حدّ الموسى القاطع فرد على الكتاب بكتاب مضاد أسهم فيه أيضاً علي عبدالعليم وعبدالفتاح اسماعيل الذي تنصل في مرحلة لاحقة من مسؤولية مشاركته بحجة أنها تمت تحت الإكراه.
ومن (حسنات) الرفيق نايف أنه طبع بأسلوبه عدداً من الكوادر العليا الذين انطلقت ألسنتهم تنطق بالساعات كلاماً (بلغتنا عن لغتنا بما ليس من لغتنا) كما قال الأعرابي عن النحويين في البصرة.
ففي تلك الأيام العجيبة كان مجرد (تسليك) اللسان بالمصطلحات ورصها في نسق ثم الاستمرار في الحديث دون تلعثم هو إحدى المعجزات، وفي هذه الحالة فإن المستمعين يؤمنون على كل كلمة لأنهم لا يفهمون ولا يريدون الظهور بمظهر غير الفاهم، وفي هذه النقطة بالذات وجدت سوقاً كبيرة للغش السياسي أثارت العجب في بدايتها عندما كانت تشبه الكلمات المتقاطعة ولكنها أثارت الرعب والدمار عندما قررت التحول إلى واقع بديل.
وأنا على يقين أن (الرفيق) نايف حواتمه عندما يستعيد الذكريات الجنوبية ومداخلاته النشطة التي لم تتوقف في أي يوم من الأيام يشعر بالندم الذي يلازم ذكريات الأيام الذهبية، ذلك أن مساحة هامة قد تلاشت أمام طاقاته الهائلة.
وعلى العكس من ذلك كان (الحكيم) جورج حبش الذي يبدوا أنه لم يلعب (الغميضة) أبداً فقد كان أميَل إلى وزن الأمور والنظر إلى البعيد ومن ذلك ما رواه لي (عبدالقادر العفيفي) وكان مسجوناً في (أبين) فقد مرّ (الحكيم) على معتقله وسأل عنه من يكون… فقيل له أنه من (بقايا السلاطين) فنصحهم الحكيم بأن يدعوه وشأنه فما من خطر يأتي من هؤلاء (المنتهين)… ويعلق العفيفي بالقول: أشعر أني مدين بجزء من حياتي لكلمة الحكيم.