من التراث العربي والإسلامي في العصر العباسي في القرن الرابع الهجري
(كتاب المكافأة وحسن العقبى)
تأليف ابن الداية أحمد يوسف الكاتب المتوفى 340هـ
حققه
وشرحه وصححه/محمود محمد شاكر
إعداد/محمد محمد عبدالله
العرشي
المقدمة:
أخي القارئ الكريم.. ما أحوجنا في هذه الأيام في اليمن والعالم العربي
والإسلامي أن نرجع إلى تراثنا التاريخي والأدبي والأخلاقي الذي استلهم منه أجدادنا
أحداثاً وشخصيات استطاعوا من خلالها أن يُكونوا الحضارة العربية والإسلامية التي
أشرق نورها على العالم، واستلهمتها الحضارة الأوروبية فتقدمت، وتركناها فتأخرنا.
وستجد أخي القارئ الكريم في هذه القصص – التي اخترتها من هذا الكتاب – العبر
والمواعظ لعلنا أن نتأسى بها وبأعلام هذه القصص المستوحاة من الواقع الاجتماعي في
العصر العباسي.
مؤلف الكتاب (ابن
الداية) هو أبو جعفر، أحمد بن يوسف بن إبراهيم، وردت له تراجم عديدة في العديد من
كتب التراجم.. وقد ذكر محقق كتاب المكافأة ترجمة مطولة لمؤلف هذا الكتاب، حيث ذكر
أن مولده يكون ما بين سنة 235 وسنة 245هـ في مصر، نشأ في كنف أبيه فأخذ عنه ولعه
بالكتابة والحساب والهيئة، وتوفي (ابن الداية) سنة 340هـ. ومن يريد المزيد عن ابن
الداية فسيجدها في كتاب (المكافأة وحسن العقبى).
يعتبر محقق هذا
الكتاب العلامة الأديب الكبير/محمود محمد شاكر؛ ثالث ثلاثة من الأدباء الكبار في
مصـر إلى جانب العقاد، طه حسين. وهو من أسرة أبي علياء الحسينية في جرجا بصعيد
مصر، وكنيته أبو فهر. ولد في الإسكندرية في ليلة العاشر من محرم سنة 1327هـ/
1فبراير عام 1909م، وتوفي عام 1997م.
له الكثير من المؤلفات منها: (المتنبي ـ عدد خاص من
المقتطف سنة 1936م، القوس العذراء ـ نشرت أول مرة في مجلة الكتاب 1371 هـ/1952م)،
(أباطيل وأسمار)، (برنامج طبقات فحول
الشعراء)، (نمط صعب ونمط مخيف "وهو سبع مقالات نشرت في مجلة «المجلة» سنة
1969، 1970م")، (قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام)، (رسالة في الطريق إلى
ثقافتنا صُدّر بها كتابُ المتنبي في طبعته الثالثة 1407 هـ ـ 1987م).
وقد حقق المرحوم العلامة الأديب
الكبير/محمود محمد شاكر العديد من المؤلفات منها: (فضل العطاء على العسر لأبي هلال
العسكري)، (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع لتقي
الدين المقريزي)، (المكافأة وحسن العقبى لأحمد بن يوسف بن الداية الكاتب)، (تفسير
الطبري – الأول والثاني – دار المعارف 1954م، الثالث والرابع دار المعارف 1955م،
السادس والسابع والثامن دار المعارف 1956م، من التاسع إلى الثاني عشر دار المعارف
1957م، الثالث عشر والرابع عشر دار المعارف 1958م، الخامس عشر دار المعارف 1960م،
السادس عشر دار المعارف 1969م). والسيرة الذاتية للمحقق كبيرة وغنية بالمعلومات
ولكن المقال لا يتسع لذكرها.
وقد اخترت هذه
القصص، وهي على النحو التالي:
القصة الأولى: مؤلف وأعراب من القيسية
ولما استفحل أمر ابن الخليج، انحاز عنه جيش مصر إلى
الإسكندرية وخلَا الفُسطاط منهم، وكنتُ بمدينة أهْناس (بلدة بالصعيد من عمل
البهنسا)، واضطربت النواحي، واحتجت إلى مُشاهدة الفسطاط. فتخفَّرت بأربعة نفرٍ من
القيسية، دَفَعت إليهم عشرين ديناراً وخرجت معهم، فأحسنوا العِشرة، وأجملوا
الصُّحبة. وكنَّا لا نجتاز بحيٍّ ولا جماعة إلاّ كَفَونا مَؤُونةَ كلامهم، وصَرفوا
عنَّا بأسهم. ولم يَزل كذلك دَأْبُنا حتى بلغنا قصر الجيزة، فأقبلت رَعْلة من
الأعراب(الرعلة: القطعة من الخيل قدر عشرين)– قدَّرتُها
برأيِ العين خمسين فارساً – كانت من غير حيِّهم،
فصمَّمَت نحوَنا برِمَاحها، وعَمِلت على نهبنا وقَتْلِنا، ورأيت الموت في أسنتهم.
وأحسنَ الأربعة – الدين تخفرنا بهم - لقاءها والتضرُّع إليهم، وناشدوهم أَلّا
يُخفروا ذِمَّتَهم، وأجمَلوا التأتِّي
(تأتى للشيء: ترفق له وأتاه من وجهه) حتى انصرفوا.
وجددنا في السَّير حتى انتهينا إلى حَيِّ
المُخفِّرين لنا، فقال المخفِّرُون :"قد بلغتَ إلى من تأمنه، فحط رحلك، فما
تستقل (تحتمل) دوابُّك الزيادة على هذا السَّير". فنزلت وتقدَّمتُ إلى
الغلمان في إطعامهم، و لم أجد للطعام مساغاً من فرط ما لحقني من الروع.
وعملت في المخفرين هذه الأبيات:
جزى الله
خيراً معـشراً حقنوا دمي
|
|
|
|
وقد شُرِعَتْ
نحوي المُثقّفة السُّمر
|
|
دراهِمهم
مبذولة لضعيفهم
|
|
|
|
وأعراضهم من
دونها الغفر والستر
|
|
إذا ما
أغاروا واستباحوا غنيمةً
|
|
|
|
أغار عليهم
في رِحالهم الشكر
|
|
وإن نزلوا
قُطراً من الأرض شاسعاً
|
|
|
|
فَمَا
ضَرَّهُ ألّا يكونَ بها قَطرُ
|
|
فلحظني واحد منهم وأنا أكتبهم، فظنَّ أني أكتب إلى
السلطان فاشتكى ما كان من الفرسان الذين لقونا بقصر الجيزة، فقال: "قد سلمك
الله من أولئك القوم، وقد أحسنوا إلينا في حُسن الإجابة لنا، فلا تكتب فيهم بشيء". فقلت: "والله ما
كتبتُ فيهم ولا في غيرهم إلى السلطان بشيء"، فقال لي شيخٌ من المخفرين – وقد قرب منِّي
–: "فما تكتب؟"،
قلت: "أكتُب أبياتاً مدحتُكم فيها"، فقال: "وإنك لَتَقْرِضُ الشِّعر؟"،
قلت: "نعم!"، قال: "أنشِدني على اسم الله"، فأنشدته إياها،
فقال: "بَرَّك الله ووَصَلَك!".
ثم صَاح بالثلاثة، فلما اجتمعوا أنشدهم إياها، فما
خَرَم – شَهِدَ الله – حرفاً واحداً،
فعجبت من حفظه لها ولم أُعِد عليه حرفاً منها، وتبيَّنت الفَرَح في سائرهم، وحفِظوها
بأجمعهم. ثم صاح بهم الشيخ: "ما تنتظرون؟ ارحضوا (رحض الثوب: غسله من وسخه)
السَّوْءَةَ عنكُم". فأدخلوا أيديهم في جيوبهم، وجَمعوا شيئاً أخَذه الشيخُ
منهم، ثم قال لي: "قد شكرنا صنيعتك، والله لا نجمع بين شعرك ووَفْرِك!"،
ووضع العشرين الدينار بين يَدَيَّ فأكبرت ذلك (أكبرته: أي أعظمته). فقالوا لي:
"الصواب ألَّا يعلم بها عشيرتنا، فيرجع عليك منها أكثر مما خِفْتَه ممَّن
لقيك بقصر الجيزة". وركبتُ فسرتُ مع جمعٍ كثيرٍ منهم وهم ينشدون تلك الأبيات،
فالتمست أن يَقبلُوا منِّي بِرَّا فلم أصِل إلى ذلك، ورَأَوا أن الشِّعْرَ أحسنُ
موقعاً ممَّا ملكته.
القصة الثانية: علان بن المغيرة وبعض
الفقهاء
وحدثني أحمد بن سقلاب، قال: "كان بمصر رجلٌ من
الفقهاء مشهور الاسم، وله حَلْقَةٌ عظيمة بالجامع. فبينما هو في صدرها إذ وَافَى
عِلاَّن بن المغيرة، فلما رآه مقبلاً نحوه قام إليه على رجليه، ثم خطا إليه حتى
لقيه. فأكثرت الجماعةُ قيام شيخٍ مثله إلى حَدَثٍ (الحدث: الحديث السن الصغير) مثل
عِلَّان، وتحفّيه به، وعَرْضِ نفسه عليه، وأنّه لم يدع شيئاً يفعله تابع بمتبوع
إلاّ بَذَله، وأسرَرنا الموجدة عليه(الموجدة: الغضب المكتوم). فلما قام عِلاَّن قال لجماعتنا: "ما
أعلمني بما أضمرتم! ولكنّي أريكم عُذري فيما خرجتُ إليه:
"كانت عندي ألفُ دينار وديعةً لرجلٍ بالمغرب
قد طال مُقامها، وطالب زوجُ ابنتي بإدخال امرأته عليه، فجلست أمُّها بحَضرتي فقالت
لي: "ما الذي تراه فيما قد ألحّ فيه هذا الرجل؟"، فقلت لها:
"نستعمِل فيه التجوُّز (التساهل)"، فقالت لي: "لنا حُسّاد نخاف
شَماتتهم، ولا بُدَّ من أن تُعينني على التجمُّل"، فقلت: "إنْ كان ما
تُريدين في قدرتي لم أبخل به عليكم". قالت: "تمكِّنني من هذه الوديعة،
ونحتاط فيما نبتاعه من الجَهاز حتى يصل إلينا ثمنه في أيِّ وقتٍ أردناه، ونُدخِل
هذه الصبيَّةَ على زَوْجها. فإن جاء صاحب الوديعة بِعنا ما اشتريناه ولم نُوضَع
فيه (أوضع في المال: وكس وغبن وخسر) إلا ما يسهُل علينا غُرْمه"، قلت:
"هذا قبيح عند الله وعند خلقه!". فلم تزل تُلِحُّ بي وتحتالُ عليّ، حتى
أجبتها. فجّهزتِ ابنتها بجميع المالِ، وأدخلتها على زوجها.
فلم يمضِ بنا بعد ذلك إلاّ شهران حتى وافَى صاحبُ
الوديعة يطلبُها، فقلت لها "ما تفعلين؟"، فقالت: "أمضي فأحمِل
المَتاع وأبيعُه". فمضت إلى ابنتها ودعت إليَّ، فقالت: "لا تشغَل نفسَك
بهذا المتاع، فقد حلَف زوجُها بطلاقِها أنه لا يَخرُج منه شيءٌ عن منزله"،
فسُقِط في يَدِي(سقط في يده: إذا زل الرجل وأخطأ فندم على ما فرط منه)، ورأيتُ
الفضيحةَ في الدَّارَيْن متصدِّيةً لي: فوُضِع إفطاري بين يدي فلم أطعم، واعتراني
ما خفتُ منه على عَقلي، وبتُّ بليلة ما بِتُّ بمثلها، وأنا أتبين سهولة ذلك على
زوجتي في جَنب ما أحرَََزَتْه لبنتها. ثم انتبهتُ قبل الفجر بمنازل، فصحتُ بالغلام
"أسرِج لي!(أسرج له: أي وضع على الدابة سرجها)"، فقام وأسرج، وقال:
"يا سيدي! أين تمضي؟"، فقلت: "ليس لك الاعتراضُ عليّ".
وركبتُ وسِرت بطَوع عِناني، فلم يزل بَغلي يسير حتى
دخلت ُ زُقاقَ علان بن المغيرة، فوقفتُ على باب داره، وصَاحَ الغلام بالبَّواب
وعَرَّفه بموضعي. فسمعتُ حركة في داره، ثم فُتح الباب وأُذِن لي بالدخول. فدخلتُ
عليه، فوجدتُ بين يديه شمعةً وهو يكتب جواباتِ كُتُبِ وُكَلائه. فلمَّا رآني قام
إليَّ، وقال لمن حضره من الغلمان، "تَنَحَّوْا!"، وأقبل عليَّ فقال:
"والله لو بعثت إليّ لسرت إليك ولم أُجَشِّمْك السعيَ إليّ، فاشرح لي
أمرك"، فغَابتني العَبرةُ وحالت بيني وبين الكلام، فما زال يُسكِّنُني حتى
نَصَصتُ له إنفاق الوديعة(نص الحديث: رفعه إليه وأظهره)، وهو مغمومٌ بأمري. ثم
قال: "فكم هذه الوديعة؟"، فقلت "ألف دينار!"، فضحك،
وقال" "فرَّجت والله عَنّي! ما توسَّمتُ أني أملكها(توسم الشيء: توهمه
وتخيله)، فكان الفمُّ يقع بها، فأمَّا وهي في القدرة فما أسهلها عليّ، وأخفَّها
لديّ!"، ثم قال لغلامه: "جئني بتلك الصِّرار (الصرار: جمع صرة، وهي التي
تصر فيها الدراهم) التي وردت علينا نت المغرب هذا الشهر"، فجاء بأربع صِرارٍ
فنظرَ فيما عليها وجمعَه وقال: "هذه ألف دينار وخمس مائة دينار، ألفٌ للوديعة،
وخمس مائة تصلح بها ما بينك وبين من عندك"، ثم قال لي: "متى أشكر إفرادَك
إيّاي – بعد الله عز وجل
ذكره – بتأميلي في حادثةٍ
حدثت عليك، فأعانني الله على مكافأتك؟". وأضاف إليّ من خَفَرني إلى
منزلي".
فقالت الجماعةُ: "قد سمعنا عُذرك، وعلينا عهدُ
الله إن لقيناه أبداً إلاَّ قياماً".
القصة الثالثة: سيف بن ذي يزن وملك
الحبشة
ومما نقله ابنُ المقفع عن الفُرسِ وتَعالمَهُ
العرب: أن ملك الحبَشة لما غلب على مملكةِ سيف بن ذي يَزَن، خرج إلى كسرى
مستصرِخاً إليه، ومستجيراً به عليه. وكان ملك الحبشة يُجري على تَرْجُمان كسرى
رزقاً مُثيباً (الرزق المثيب: المصلح
للحال بعظيم غنائه) على تحريف دَعْوى المتظلّمين منه. وكان لكسرى يومٌ في كل شهر
يركب فيه، ويقرُب من عامَّته، ومن لا يصل إليه ممن انتَجَعه (انتجعه: أتاه يطلب
معروفه وخيره)، فتوَخَّى سيف بن ذي يزن ركوبَه في ذلك اليوم، فلما رآه قال:
"أسعد الله الملكَ! أنا سيف بن ذي يزن، أغار عليَّ متملِّك الحبشة بفَرط
تعَديه وسوء جِوَاره، فأخرجني من مملكة عَمَرتُها أنا وآبائي مُذ أكثر من مائتي
سنة. وأنا أسأل الملكَ أن يُنْجِدني عليه (أنجده على فلان: أغاثه وأعانه عليه)، ويردّني
بطَوْله إلى مملكتي ومملكة آبائي". فسأل الترجمانَ عن قوله فقال: "يقول:
"أنا رجل من جلة العرب(الجلة: جمع جليل، وهو الكبير العظيم)، وقد اختلَّت
حالي، واضطرب شملي لشدّة الفاقة، وقد قصدتُ الملك مُستَتِراً به، ومستميراً
منه(استمار فهو مستمير: طلب الميرة، وهي الطعام والرزق وما إليهما)"، فأمر له
بجائزة. فرأى سيف بن ذي يزن مالا يشبه ما ابتدأه به.
وصبر إلى اليوم الذي يسهُل فيه كلامه وانتَظَره
فيه، فلما رآه قال: "أنا أيد الله الملِك لأقتَبِس من عزّه، وأنتصر
بقُوَّته"، فسأل الترجمان عما قال، فقال: "يقول أمَرت بما يقصُر عن
حاجتي"، فأمر له بجائزةٍ أخرى. فوقف على تحريف الترجمان لكلامه.
فانتظره في اليوم الثالث، فلما رآه قال: أيد الله
الملك، إنَّ الغادِرَ" ... فأدَّى إليه هذا الحرفَ، فقال: "الخائن"
... فرأى في وجه الملك الاستفهام، فقال: "الكذاب" ... فأشار إليه الملك
بيده من هو؟ فأومَى إلى الترجمان، فأحضر الملك ترجماناً آخر، فقَّص عليه قصَّته،
فضرب عنق الترجمان، وأحْسَنَ تَلَقِّيَ سيف بن ذي يزن لما تبيّن منه في التأتِّي
لإفهامه(تأتى للشيء: ترفق في إتيانه وإدراكه).
ثم أحضره مجلسه فسأله عن مقدارِ حاجته، وما الذي
يُؤْثِرهُ من أصناف الناس؟ فقال له: "أسأل الملك أن يُطلِق لي من محابِسه
الكهولَ، فإنهم أصبرُ في المعارك، وأسمحُ في بالنفوس"، فأطلق له جملة من {في}
الحبس كهولاً بأسرهم، فحملهم في مَرَاكب، وركب معهم حتى وَافَى مملكته.
فلما نَزَل جميعُهم، أحرق المراكب، واعتمد ذلك سراً
منهم. فلما نزروا إلى المراكب وقد أحرقت، قال للرجال: "إنه لا يحسن بكم
التَّعذيرُ في القتال فتهلِكُوا(عذر في الأمر تعذيراً: قصر بعد جهد يبلغه العذر في
الإخفاق)، ولكن جِدَّوا جِدّ من لا نجاة له في البحر". فجرّد الجيشُ
العِنَاية، وصَدَقوا حتى بَرَزوا على من أقامَ بمملكته(برز عليه: فاق عليه وغلبه)،
واحتازُوا له طائفةً كبيرةً من أرض الحبشة، وقهر مَلكها واتَّقى جانِبَه.
القصة الرابعة: أبو يوسف القاضي والغنوي
وحدثني أحمد بن أبي عمران، عن مسلم بن أبي عُقبة،
عن أبيه عُقبة،– وكان عقبة هذا
مصادقاً لأبي يوسف القاضي وتِرباً له –، قال:
"كان أبو يوسف قد انقطع إلى أنحاءِ
الفقهِ(أنحاء الفقه: وجوهه وأبوابه ونواحيه)، فأحسنَ القولَ عن أبي حنيفة؛ وكانت
زيادته في العلم، بمقدار نقصانه في الرزق. وكان كل من يستعرضُ حاله بالكوفة، يشير
عليه {بالرِّحْلةِ} إلى بغداد. ويرى أبو يوسف صوابَ ما يُشار به عليه، فَيُقْعِدُه
نقصانُ حاله عن المركب الفارِه(الفاره: النشيط الحادّ القويّ من الدواب)، والّلبسة
التي تُشبه من حلَّ محلَّه من العلم، ونُزِع إليه من أقصى النواحي(نزع إليه: قصد
من بعد).
"وكان له غلام كان لأبيه، حاذقٌ بعمل
الجَوَاشن (الجواشن: جمع جوشن: درع وزرد يلبسه الصدر والحيزوم من العنق) والدُّروع
وكثيرٍ مما يحتاج إليه من آلة الحرب، وكان يأتيه في كلّ شهر بما يقوته في حاضرةِ
الكُوفة، ولا يُعينه على حَضـرة السلطان. فرغب في الغلام عامل للمهديِّ على الكوفة
– قد ذهب عنِّي اسمه
–، فطلبَه من أبي
يوسف – وهو يومئذ من أصاغِر
رَعَاياه –، فباعه منه بتسعين
ديناراً.
"وخرج عند ذلك إلى بغداد، فارتاد دابَّةً
وثياباً.
"وكان لعبدالله بن القاسم الغَنَوِيّ – أحد أصحاب الأعمش
– محلٌ من المهديّ،
ولم يكن في المجالسِ التي تنعقد ببغداد في الفِقْه أجل من مجلسه. فدَخَل أبو يوسف مع
كافَّة من دخل، مِنْ غير تسليم على عبدالله، ولا مُقَدِّمة لحضور مجلسه. وكان أبو يوسف
حَسَنَ الصورة، جميلَ الإشارة، لطيفَ التخلُّص والاحتجاج، فقَبِله قلبُ عبدالله
ولم يعرفه.
"وجرت مسائلُ وأجوبةٌ، كان حظُّ القياس فيها
مقصِّراً، وكان الاحتجاج على ظاهرِ القول. فتكلم أبو يوسف فيها فأَحسن الاحتجاج
وجوَّد، وأعانه على هذا طُولُ لِسانه وحُسنُ بيانه، ثم سألهم فقَّصروا عن الجوابِ،
فأبان عنه لهُم برفق. فلما تقضّى المجلس عاتبه عبدالله على تخلُّفه عنه وتعريفِه
مكانَه، وسأله أين نَزَل، فأخبره. فرغب له عن الموضع الذي سكنه، ودعاه إلى منزلٍ
بالقرب منه، وقرَّر خبره عند أبي عبيدالله كاتب المهدي، فوصله بالمهديّ وأسْنَى
رزقه(جعله سنياً أي رفيعاً عظيماً)؛ ثم قَرَنه بالهادي فأقام معه مُدَّة أيامه؛ وبلغ
مع الرشيد ما لم يبلغْهُ عالم بعلمه، ولا محبوبٌ بمرتبته.
أخي القارئ الكريم..
لعلك أطلعت على
القصة الأولى وستجد فيها تذوق الأعراب للشعر وإيثارهم للأدب بدلاً عن المال، وفي
نفس هذه القصة تستطيع أن تستنتج أن القراءة والكتابة كانت منتشرة بين الأعراب في
ريف مصر. وفي القصة الثانية تستنتج تقدير العلماء ونجدتهم، واعتراف العلماء بأصحاب
مكارم الأخلاق. وفي القصة الثالثة ستستفيد منها معرفة إحدى الروايات التي تروي قصة
سيف بن ذي يزن عندما استعان بالفرس، حيث يظهر ذكاء سيف بن ذي يزن في اكتشافه
لتلاعب المترجم الذي ترجم الكلام بينه وبين كسرى ملك الفرس. وفي القصة الرابعة
نستفيد منها معاناة طالب العلم أثناء طلبه للعلم، وكذا تقدير الملوك للعلماء، حيث
صار أبو يوسف من أقرب المقربين للخليفة العباسي الرشيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق