الأحد، 15 فبراير 2015

برهان البرهان الرايض.. تاريخ اليمن الزاخر

الخميس, 22-يناير-2015
عرض: محمد علي ثامر -
دائماً ما يفاجئنا الأستاذ المحقق/ محمد بن محمد العرشي بإنجازات رائعة، قلما نجد لها مثيلاً، فهو السبّاق دائماً إلى تحقيق وطباعة مخطوطات يمنية، تمثل كنوزاً تاريخية وتراثية بحد ذاتها.. وها نحن اليوم نتأمل إنجازه الثالث، المتمثل بتحقيقه لكتاب (برهان البرهان الرايض في الجبر والحساب والخطأين والأقدار والفرائض) لمؤلفه الإمام العلامة/ إبراهيم بن عمر البجلي الزبيدي، ليعود بنا إلى الإنجازين الرائعين، اللذين سبق للمحقق أن أنجز تحقيقهما وهما: كتاب(من بواكير حركة التنوير في اليمن) للعلامة/ أحمد بن أحمد مداعس، وكتاب (الإعلان بنعم الله الواهب الكريم المنان في الفقه عماد الإيمان بترجيعات في العروض والنحو والتصريف والمنطق وتجويد القرآن) تأليف: صفي الدين أحمد عبد الله السلمي الوصابي الشهير (بالسانة)، والذي يشكل مع هذا الكتاب توأماً فريداً ونادراً في إبداع أمة العرب وآدابها ـ كما تم وصفهما في المقدمة الرائعة لهذا الكتاب - فالكتاب يحتوي على (253) صفحة من القطع
A4 الجميل ذات اللون الذهبي، وقام بتقديمه الأستاذ الأديب/ خالد الرويشان، وقرّظه شاعرنا الكبير/ حسن عبد الله الشرفي.
عندما تقرأ وتقلّب صفحات هذا الكتاب الجميل طباعة وتنسيقاً وإخراجاً، والرائع معنى وتفاصيلاً ومضموناً، تجد بأنك أمام مخطوطة غريبة وعجيبة في آن واحد، فالغريب فيها هو اختلاط الأمر وعدم الفهم لما تحتويه الأبيات الشعرية لهذه المخطوطة، وكذا ألوان تقسيماتها العمودية، ولعل هذا الاختلاط وقع فيه كثير من الكتاب والأدباء والمفكرين ـ سبق وأن سألتهم عن كتاب (الإعلان) توأمه السابق ـ ولكن ما أن يتفهم المرء ويعرف تقسيماته الأفقية والرأسية، ليجد بأن هذا الكتاب ليس غريباً البتة، وإنما كتاب يحوي العديد من أصناف العلوم، وبطريقة مبسطة ومبتكرة جداً تشبه الأبيات الشعرية لشعراء المعلقات السبع، تبدأ هذه الأبيات بكلمة (الحمد لله) أفقياً ورأسياً في مقدمة الكتاب.
أما العجيب أيضاً فهو احتواء تلك الأبيات الشعرية لخمسة علوم هامة ومهمة، ساهمت - حينذاك - في إعلاء نهضة ورقي وتطوّر الإنسانية، والعلوم هي:
علم الفرائض: وهو علمٌ يُعرف به كيفية توزيع الإرث على مستحقيه، ويُقرأ أفقياً على كامل الصفحة على الوضع المعتاد في الكتب.
علم الخطأين: وهو علم يُتعرف منه استخراج المجهولات العددية، إذا أمكن صيرورتها في أربعة أعداد متناسبة، ويُسمى في هذا الكتاب بالعمود أو الترجيعة الأولى، ومُيَّز باللون الأحمر.
علم الحساب: وهو علمٌ بقواعد تُعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة، من الجمع والتفريق والتصنيف والتضعيف والضرب والقسمة، ويُسمى في هذا الكتاب بالعمود أو الترجيعة الثانية، ومُيّز باللون الأزرق.
علم الجبر: وهو علمٌ يُعرف به كيفية استخراج مجهولات عددية بمعادلتها المعلومات مخصوصة على وجه مخصوص، ويُسمى في هذا الكتاب بالعمود أو الترجيعة الثالثة، وميز باللون الأخضر.
علم الأقدار المتناسبة: وهو العلم الذي ينظر في المقادير المتناسبة، وأحد فروع العلوم الهندسية، ويُسمى في هذا الكتاب بالعمود أو الترجيعة الرابعة، وميّز باللون البنفسجي.
ويودر المحقق - الأستاذ العرشي- توضيحاً لهذه العلوم حيث يقول: "لم يقسم أياً من العلوم الأربعة إلى أبواب أو فصول أو مسائل، بل سرد كل علم بأوجز عبارة، ليكون كل كتاب من هذه الكتب، وكأنه مجموعة قواعد موجزة مبنية في فنه، فلم يكن في الإيجاز إخلال، ولا في الاختصار إهمال.
أما علم الفرائض الذي هو أساس الكتاب، فقد قسمه المؤلف إلى أبواب وفصول، وضمنه مسائل وفروع على النسق المتعارف عليه في علم الفرائض غالباً، إلا أن الجديد الذي جاء به المؤلف رحمه الله في هذا المجال هو تضمينه العلوم الحسابية، التي لا غنى لطالب علم الفرائض عنها، لتعلقها به وتعلقه بها.
الكتاب المعجزة.. في زمن عظيم
إن إنجاز كتاب (برهان البرهان الرايض) مثّل معجزة قل نظيرها، وفي أقل من عام واحد فقط، "حيث بدأ العمل في تأليف الكتاب في شهر رجب من سنة 908هـ، والانتهاء منه في شهر صفر في سنة 909هـ".. وقد واكب إصدار هذا الكتاب زمن الدولة الطاهرية، التي كانت في أوج تقدمها ورقيها وتطورها، وقد اعتنت عنايةً كبيرة بالعلم والتعليم، حيث بنت المدارس والمساجد والزوايا العلمية في كثير من المدن، وأوقفت عليها الكثير من الأوقاف، التي ساعدت على قيام نهضة علمية كبيرة، ويذكر الإمام البجلي في مقدمة كتابه الآخر، الذي يفسر هذا الكتاب والمعنون بـ (كشف الأسرار والغوامض في مخبيات كتاب "برهان البرهان الرايض)، "أنه أكمل تأليف كتابه "برهان البرهان الرايض"، بأمر من الملك الظافر صلاح الدين عامر بن عبد الوهاب بن داوود بن طاهر، آخر سلاطين الدولة الطاهرية".
وهنا فإن تحقيق وطباعة هذا الكتاب، ونحن في القرن الحادي العشرين، يمثل قفزة نوعية ورغبة أكيدة في إعادة استقراء التاريخ والتراث العربي والإسلامي، الذي أوصل الحضارة العربية إلى أوج ازدهارها ورقيها، ولنحاول ولو مجرد المحاولة، لإزالة الغبن والبؤس الذي نعيشه هذه الأيام، في ظل عالم موحش موغل بالكذب والقتل والهتك والتنكيل ببني الإنسان - والعرب والمسلمين على وجه الخصوص- لنهجر السياسة وصانعيها ومحبيها، ونهرب منها إلى قراءة كتاب يحمل سيرة عطرة ـ وهو موقف عظيم يحسب للمحقق العرشي، أن أدرجها في هذا الكتاب ـ لأولئك الذين رفعوا من شأن الحضارة العربية والإسلامية، وخدموا سائر البشرية، بل وكانت الأساس الأمثل واللبنة القوية، التي نهضت عليها الحضارة الغربية والأوربية بالذات، حيث مثلت منتوجاتهم العظيمة والكبيرة، أعظم فائدة للمستشرقين من الدول الغربية، الذين قاموا بترجمة جميع أعمال الأعلام والرواد المسلمين، كالفراهيدي وابن حيان والخوارزمي وأبو بكر الرازي والفارابي والبيروني وابن رشد وابن النفيس والحسن بن الهيثم، وصاحب علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم.. إلى لغاتهم، وحققوا النهضة الحقيقية والرائدة التي وصلوا إليها الآن.
فحُقَّ للعطر أن ينتشي مراتٍ ومرات، وللجمال أن يتراقص، وهذا هو واقع الحال عند قراءتك لهذا الكتاب الأسطورة - إن جاز لنا الوصف - الذي لم يترك شيئاً جميلاً إلا وذكره، ولا ذكراً خالداً لرجال عظام إلا ودونه وحفظه؛ كتناوله أيضاً للذكر الجميل والجوهر النفيس، لكوكبة من العلماء والمبدعين اليمنيين من القرن الأول الهجري، وحتى القرن الثالث عشر للهجرة، وتضمنه أيضاً لسرد إنجازات عظيمة لكوكبة من الأعلام والمبدعين والمخترعين اليمنيين المعاصرين.. فالقطرة ليست أول الغيث فقط في هذا الكتاب، وإنما الخير كله.
البجلي.. المؤلف الأروع في زمانه، والأعظم في إنتاجاته

عندما نقرأ هذا الكتاب تهفو النفس وتشتاق، لكي تتعرف على من قام بهذا الجهد الرائع، وتحاول وأنت تكتب عنه أن تعطيه جزءاً بسيطاً من حقه.. فالمؤلف - كما كتب عن نفسه - هو الإمام العلامة/ برهان الدين إبراهيم بن عمر البجلي الزبيدي، المولود في شهر رجب من عام 854 هـ، بمدينة أبيات حسين قبلي المدينة المعروفة ببيت الفقيه بمحافظة الحديدة، وتعلم ودرس القرآن الكريم بها، وحين تعرضت هذه المدينة للخراب - للمرة الأولى والثانية - انتقل بعدها إلى قرية بيت غراب، ثم إلى قرية بيت أبي الخل، ثم إلى مدينة العلم والعلماء زبيد، وهناك ختم القرآن الكريم، وقام بقراءة كتاب (بداية الهداية) للإمام الغزالي، وكتاب (ألفية ابن مالك، وشرحها أوضح المسالك) لابن هشام، والعديد من الكتب الهامة، على مسامع عدد من فقهاء وعلماء مدينة زبيد الذين أجازوه.. قام بعدها بجمع كتاب في اللغة أسماه (الكوكب الوضاح الجامع للقاموس وشواهده من الصحاح) في أربعة أجزاء، حيث أدرج شواهد الصحاح لابن الجوهري في القاموس للشيخ مجد الدين الشيرازي.
تلا ذلك العديد من الكتب والمؤلفات، ككتاب (مفيد الحساب)، وكتاب (برهان البرهان الرايض في الجبر والحساب والخطأين والأقدار المتناسبة والفرائض)، وكتاب كشف الأسرار والغوامض في مخبيات برهان البرهان الرايض)، التي مثلت الأثر الأجمل والأروع لمؤلف كبير في علمه وعظيم في إنتاجه ومؤلفاته.
أما تاريخ وفاة المؤلف فغير معروف، حيث لم يتم تحديد تاريخ الوفاة في هذا الكتاب أو في كتابه الآخر (كشف الأسرار والغوامض....)، الذي يشرح هذا الكتاب ويبين أسراره ومخبياته، أو في غيرهما من الكتب الأخرى لعلماء ومؤرخين رافقوا عصره وزمانه.
مخطوطات بلادنا .. كنوز العلم الوافرة
إن ما تحتـويه مكتبات ودور المخطوطات في بلادنا، وعلى امتداد رقعة الوطن الشاسعة، هو عدد كبير، ليصل إلى الآلاف أو ربما لمئات الآلاف من الكتب والمراجع والمؤلفات المخطوطة، في شتى العلوم الإنسانية، كالطبّ والفلك والكيمياء والزراعة والأعشاب والجبر والحساب والأقدار والموازين وعلوم الفقه والبلاغة والآداب والشعر والفنون والتاريخ وغيرها، والتي تعتبر أغلى كنزٍ يملكه اليمن؛ كنزٌ لا يزال بكراً لم تكتشف أسراره بعد، كما لم ينفض عنه غبار الإهمال والنسيان، الذي طاله وطمره لعشرات ومئات السنين الماضية.
ولذلك فالإصدار والتحقيق لمثل هذا الكتاب، يشجع على ضرورة إطلاق حملة وطنية - تتبناها الدولة - لإعادة اكتشاف مخبيات هذه المكتبات والدور، وهذا العدد الهائل من المخطوطات اليمنية، وإعادة تحقيقها وإصدارها وطباعتها من جديد، ليتم رفد الجامعات والمعاهد المتخصصة والمكتبات الخاصة بنسخ منها، ليطلع عليها جمهور المفكرين والمهتمين.
العرشي وزملاؤه ..
التحية لهم واجبة
لقد مثل – ولا يزال- الأستاذ والمحقق/ محمد العرشي – الوكيل السابق لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، وأحد مؤسسي شركتي يمن موبايل وتيليمن، وصاحب الأرضية القانونية والتشريعية لمجال الاتصالات والمعلومات في بلادنا، وزملائه، الأستاذ الفاضل/ خالد بن عبدالله الرويشان - عضو مجلس الشورى - وزير الثقافة والسياحة الأسبق، الرائد الذي أوجد نهضةً ثقافيةً نوعية، أثناء توليه مهام هذه الوزارة، والأستاذ/ علي صالح الجمرة ـ المدير العام السابق للمؤسسة اليمنية للإذاعة والتلفزيون، والأستاذ/ عبد الخالق المغربي، أعظم نموذج فريد من نوعه لرجالات الدولة اليمنية وبناتها وعمالقتها، لقد مثَّل هؤلاء نموذجا مختلفا تماماً عن مسؤولي هذه البلاد، فهؤلاء تركوا مناصبهم الرسمية وامتيازاتهم الجهوية، واتجهوا نحو إعادة وتحقيق ما خلفه لنا التراث والتاريخ اليمني، في مختلف أنواع العلوم، وعلى امتداد العصور السابقة، وتحملوا مسؤولية رفد طلاب العلم والمعرفة بمثل هذه الإنجازات، لتثقيفهم وتعليمهم، بما قدمه العباقرة والأعلام والرواد اليمنيين الأفذاذ، من تاريخ عظيم وإرث أعظم وأجمل..
فهنا التاريخ يعيد نفسه وزمانه حقيقة، فالأستاذ العرشي وزملاؤه هم رجالات الدولة الحقيقيون، الذين قل نظيرهم، الرائعون بإنتاجاتهم، الشغوفون بحب وطنهم، اللهوفون على أبنائه، فلهم منا كل التقدير والحب وعظيم الامتنان والاحترام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق