الأحد، 15 فبراير 2015

كتابٌ يمنيٌ مدهش

كـتـابٌ يـمنـي مـدهـش

 (كتاب برهان البرهان الرايض في الجبر والحساب والخطأين والأقدار والفرايض)
للشيخ الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن عمر البِجْلي (854هـ -... هـ)


                                            بقلم: د/ إبراهيم أبو طالب
أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد بجامعتي صنعاء، والملك خالد


تمهيدٌ وبيان:

   بعد تحقيقه لكتاب (الإعلان بنعم الله الواهب المنان في الفقه، والعروض، والنحو، والتصريف، والمنطق، وتجويد القرآن...) للعلامة
صفي الدين أحمد بن عبد الله السّلمي الشهير بالسّانة المتوفى(1122هـ -1710م)، في طبعته الأولى 2011م، يواصل الأستاذ محمد بن محمد بن عبد الله العرشي مشروعه الخاص في تحقيق النوادر من تراثنا اليمني الأصيل الذي نذر نفسه لخدمته ورعايته وإبرازه للعالمين، وها هو هذه المرة يدهشنا بكتاب آخر لا يقل أهمية عن سابقه هو كتاب (برهان البرهان الرايض في الجبر والحساب والخطأين والأقدار والفرائض) وهو كما يُلاحظ من العنوان يحتوي على علوم خمسة دقيقة ورصينة في تراثنا العربي عموماً واليمني خصوصاً، ولعلَّ ما يدهش فيه ليس محتوى تلك العلوم لأنها معروفة مُدَرَّسة ومدْروسة في معظم مدارس العالمين العربي والإسلامي لقرون طويلة ومتعددة، ولكن المدهش والغريب العجيب هو طريقة نسج تلك العلوم الخمسة في صفحة واحدة بحيث يكون علم الفرائض –هذا العلم الدقيق والصعب، وأول ما ينزع من العلم؛ كما جاء في الحديث- يكون أفقياً، ثم تأتي الترجيعات الرأسية بحيث يقتطع رأسيا من أول كل صفحة حرفاً أو كلمةً أو بعض كلمة أو كلمة ونيف وهكذا لعلم الخطأين، -وسنأتي لتعريفه وتعريف بقية العلوم لاحقاً- ثم ربع الصفحة رأسياً يفعلُ مع علم الحساب، ثم الربع الثالث لعلم الجبر، وآخر السطر (الربع الرابع) في الصفحة لعلم الأقدار المتناسبة، وهكذا يستمر الكتاب في صفحاته الـ (112) صفحة، من (95- 206) بنسيج فريد ودقة متناهية.

القدرة على الإدهاش:
   يا لها من قدرة مدهشة على النسج والقطع في المكان الدقيق والوحيد والمناسب، وفيها جهد كبير وحرص وتميز وذكاء، وتركيز وخبرة غير مسبوقة، وهي من النوادر القليلة بحيث يغدو هذا الكتاب –بعد سابقه الإعلان، والأسبق منها في التحقيق والظهور كتاب عنوان الشرف الوافي في علم الفقه والعروض والتاريخ والنحو والقوافي) الذي ألفه إسماعيل بن أبي بكر المقري المتوفى (837هـ)، وقد صدر في عدة طبعات منها عن عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بتحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري، وهو مؤلَّف بطريقة لا مثيل لها في العالم بحيث يكون كل كتاب عموديا بلون مختلف فلو قرأت كل لون عموديا تحصل على كتاب لكل لون، ولو قرأت الأسطر أفقيا تحصل على كتاب واحد في الفقه، وذلك بنفس تقسيم كتابنا هذا برهان البرهان، ولكن باختلاف المحتوى من العلوم.

جدوى مثل هذا الكتاب:
   قد يقول قائل: ما جدوى ذلك إذا كانت العلوم محفوظة ومكررة، وما الجديد الذي يقدمه الكتاب؟!
   فنجيب عليه بأن الجديد هو الطريقة والتشكيل والنسج، نعم إن العقل المبدع لهذا المؤلف ربما قد تشبَّعَ من هذه العلوم وحفظها واستظهرها، ولكنه مضي يبحث عن تشكيل إبداعي جديد يقدمه من خلالها، ويخرجها إخراجاً مختلفاً، لا يعدم ثورته على نمطيتها ولكنه لم يجد إلى التطوير في تقليديتها سبيلا فلجأ إلى هذا الأسلوب، وهو بذلك يؤكد معرفة واقتدارا على اللعب بهذه العلوم ومعها لعباً مدهشاً مثيراً.
   ويكمن الإبداع هنا في التشكيل الذي يجعل المتأمل والقارئ يحار في كيفية انجاز مثل هذا الأمر، في صفحات تبلغ المئات، وفي علوم متشعبة ومختلفة، إذا ما أدركنا أن الكلمات المتقاطعة التي لا يتجاوز حروفها العشرات رأسياً وأفقياً قد تستغرق من واضعها وقتاً طويلا، بله كتاب كبير في هذا القدر من الصفحات، إنه ولا شك إبداع وعبقرية، أوليس الإبداع هو الاختلاف هو الادهاش هو الاتيان بالمفارق بما لم يستطعه الآخرون، وإلا لما كانت هنالك الموسوعات والمتابعات الإعلامية، ولما كانت موسوعة جنيس للأرقام القياسية تمضي في أعوامها المتلاحقة ترصد الغرائب والعجائب والمدهشات، ولم يسال أحد ما جدوى أن يكون هناك شاربٌ يبلغ طوله 430 سم يسجله الهندي سينغ شوهان بعد 32 سنة يقضيها في تربيته والعناية به،  أو شعر رأس في ارتفاع 3 أقدام يسجله الياباني "واتانابي"، وقد استغرق في تربيته 15 عاماً ودخل الموسوعة في نسختها لهذا العام 2013م، وغيرها الكثير، لم يسأل أحد عن جدوى ذلك لأن الغريب والعجيب هو الجدوى، والمختلف والمدهش هو الغاية، ومن هنا يدخل هذا الكتاب في الإبداع والاختلاف والإدهاش لو كان له سبيل إلى موسوعة جينيس –أو موسوعة عربية ما- لتعرِفَه وتعرِّفَ به العالم بما يحقق تفرداً يمنياً وسبقاً مدهشا، لا أكاد أجد – فيما أعلم- لهذا الكتاب ولأخويه الآخرين مثيلاً في مخطوطات العالم، أو ليس من حقه أن يعرف، ومن حق محققه أن يكرم، ويشكر؟!.

العقول اليمنية المبدعة:
   في اليمن عجائب لا تنتهي وعقول لا ينفد عطاؤها، ويأتي كتاب برهان البرهان شاهدا عليها، ومن العجيب أن يخرج في هذا التوقيت من عام 2013م، واليمن يمرُّ بأزمات متلاحقة وخلافات لمّا يصل الحوار معها إلى سبيل راشد وطريق واضح، وثمة من ينفخ تحت الرماد أحقادا طائفية ومذهبية ما عرفها اليمن من قبل ولا كانت قلوبهم الأرق وأفئدتهم الألين تقبل بها ولا تروج لمدعيها، فيأتي هذا الكتاب وكأنَّ مؤلفه البجلي –رحمه الله- قبل عدة قرون وباعثه المعاصر العرشي –حفظه الله- قد التقت روحاهما ليرسلا رسالة سلام إنسانية ووثيقة علم كبيرة للناس في هذا البلد كي يفهموا معناها ويدركوا حقيقة الحياة بأنها أسمى من أن نضيعها في الخلافات، وأقصر من أن نفقدها في الأحقاد، فهل ثمة من يفهم هذا الرسالة العلمية البديعة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد ليعرف أن اليمن مهد الحضارات ومعقل العلم والإبداع عبر العصور، بما فيها من العلماء والمبدعين والأدباء ومحبي الحياة والعطاء ممن يرسمون للوجود آفاقا رحبة، وينشغلون بما ينفع الناس، لا بما يضرهم ويفرق شملهم، ويشتت كلمتهم وألفتهم التي عُرِفُوا بها عبر الزمان وبشهادة سيد ولد عدنان –صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا-.

عرضٌ عام للكتاب:
   يأتي كتاب برهان البرهان الرايض... الذي سأعرض فيما يأتي من السطور طرفاً من محتواه ومنهجه وجهد المحقق فيه لنعرف مقدار تميزه في نسيجه، ومحتوى علومه، لعلَّ منتفعاً يقرأ هذا المقال أو مهتماً يسعى إلى الاطلاع والفائدة.
   يحتوي الكتاب على 253 صفحة من القطع الكبير تشتمل بعد صفحتي الإهداء والشكر، على إضاءة بقلم الأديب خالد الرويشان وزير الثقافة اليمنية الأسبق، بعبارات جميلة ولغة شعرية عالية السبك والتأثير، وتقريظ للشاعر الكبير حسن عبد الله الشرفي، جاء في مطلعها:
هَا هُنا المجدُ، هَا هُنا عنفوانُهْ
وهنا في كتابه ترجمانُهْ
وهنا الملكُ، لا الذي عاش كِسرى
معهُ واحتفى به صولجانه
قد توارى زمانه وتلاشى
بعد حينٍ مِنْ مَوته سُلطانُهْ
غيرَ أنَّ الكتابَ،، أيَّ كتابٍ
مثلُ هذا،، لا تنتهي أزمانُهْ...
ثم تأتي مقدمة المحقق في (81) صفحة، وأما محتوى المخطوط المُحقق فيقع في (111) صفحة، يعقبه الترجيعات للعلوم الأربعة (علم الخطأين، والحساب، والجبر، والأقدار المتناسبة) مجموعة في صفحات بعد أن كانت مفرقة في أسطر في صفحات الكتاب السابقة، تأتي تلك الترجيعات في الصفحات (207 – 217)، ثم يتبعها تراجم مختصرة لأعلام كتاب البرهان وهم (16) علماً ذكروا في متن كتاب البرهان منهم مثلاً: عثمان بن عفان، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعمر بن عبد العزيز ...وغيرهم، ثم البلدان الواردة في كتاب البرهان وهما بلدان اثنان لا ثالث لهما: البصرة، وزبيد، ثم أعقب المحقق فهارس لما جاء في مقدمة التحقيق وقد احتوت تلك الفهارس مُرتَّبةً على: فهرس الآيات، والأحاديث، والفِرَق والأديان، والأعلام - بلغ عددهم (249) عَلَمَا-، والكتب، والبلدان، والأبيات الشعرية، والأجهزة والأدوات، ثم قائمة بأهم المراجع والمصادر وبعض المواقع على الشبكة العنكبوتية (الأنترنت).




تراجم الأعلام العرب واليمنيين:
   ما سبق عرض شامل لمحتوى الكتاب، وفيما يأتي تفصيل لبعض جوانبه، وقد ترجم المحقق العرشي في مقدمة التحقيق لعدد من أعلام المسلمين الذين أبدعوا في شتى العلوم الإنسانية، ومنهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي، وجابر بن حيان، والكندي، والخوارزمي، وابن وحشيه النبطي، والرازي، والفارابي، وابن الهيثم، والبيروني، وعمر الخيام، وابن طفيل، وابن رشد، وابن النفيس، ونصير الدين الطوسي، وابن خلدون الحضرمي اليمني، مبيناً إسهاماتهم العلمية كلّ في مجاله وتخصصه، ولم يغفل عن ذكر الأصول اليمنية لبعضهم.
   ثم أفرد تراجم لكوكبة من العلماء والمبدعين اليمنيين من القرن الأول وحتى القرن الثالث عشر الهجري – استكمالا لما بدأه في مقدمة تحقيقه السابق لكتاب الإعلان...- والسبب الدافع لهذه الترجمة كما يقول: "أن التراث اليمني الإسلامي والفكري تعرض عبر القرون المنصرمة سواء قبل الإسلام أو بعده ..تعرض لكثير من التهميش أو التجاهل أو التناسي سواء كان ذلك من أبناء اليمن أنفسهم بسبب الصراعات السياسية أو المذهبية أو الطائفية أو الخلافات الفكرية، أو من غير اليمنيين بسبب الجهل بالتراث اليمني في كافة المجالات العلمية والإبداعية، وضياع معظم هذا التراث بسبب الحروب..." ص 41.
   وقد ترجم المحقق في مقدمة كتاب الإعلان لـ (42) علماً من القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر، ثم أضاف إليهم (23) علماً هنا مما استدركه، وهم: أويس القرني، أبو مسلم الخولاني، طاووس اليماني، الإمام مالك بن أنس الأصبحي الحميري، أحمد بن عبد الله السلمي الوصابي، علي بن حسن مرغم، ثم أضاف إليهم كوكبة من الأعلام والمبدعين المعاصرين ممن ظهرت جهودهم في الاختراعات والعلوم المختلفة والآداب وفنون الإدارة وغيرها، وهم:
1.  إبراهيم بن إسماعيل الظفاري (ولد حوالي 1300هـ مخترع الصناعات في زمنه.
2.  علي أحمد باكثير (ت1389هـ/ 1969م) الأديب والروائي والمسرحي الشهير.
3. د. محمد عبد القادر بافقيه (ت 1423هـ/ 2002م) الأكاديمي والخبير في النقوش اليمنية والتاريخ القديم.
4.  القاضي يحيى بن يحيى العنسي العميد وفقيه البيئة الزراعية، والفلكي.
5. القاضي علي بن أحمد أبو الرجال (ولد 1933م) المثقف والوزير وأحد المهتمين بجمع الوثائق النادرة والمخطوطات القديمة ورئيس المركز الوطني للوثائق، وقد أطلق عليه اليمنيون صفة (أبو التوثيق في اليمن) وأطلقتُ عليه لقبَ (أصمعي اليمن) لاهتمامه الكبير وجهوده الواضحة في جمع الوثائق، وقد أفرد له المحقق ترجمةً واسعةً في تسع صفحات كاملة.
6.  خالد عبد الله الرويشان وزير الثقافة الأسبق والأديب المعروف.
7.  د. خالد نشوان صاحب الاختراعات الطبية التي أبرزها جهاز (نشوان باراساوند).
8.  المهندس محمد علي العفيفي صاحب (13) اختراعا ولقب بـ "أديسون اليمن".
9. عبد الله عبد الكريم فارس من أهم أعماله مجموعة الخطوط العربية وأجمل خطوطه حروف منى، والتاريخ، والأندلس، وصنعاء، كما قام باختراع محرك البحث الصوتي متعدد اللغات والذي فتح آفاقا جديدة في عالم تشفير الأحرف.
10. إسماعيل الضبيبي (مواليد 1985م) رئيس جمعية المخترعين والباحثين اليمنيين، من اختراعاته محرك توليد الطاقة الكهربائية ذاتيا، ومنشارا لتشكيل الأحجار والمعادن، وحصل به على جائزة رئيس الجمهورية.
11. صالح أحمد الهذيلي ابتكر محولا كهربائيا يعطي اي قيمة للجهد الكهربائي من دون الحاجة إلى إعادة لفّه.
12. هاني با جعالة رئيس فرع اتحاد المخترعين اليمنيين بمحافظة حضرموت فاز بجائزة دولة بولندا على اختراعه الإلكتروني الذي يساعد في الكشف المبكر على الأمراض الوبائية بما فيها انفلونزا الخنازير، وحصل على الميدالية البرونزية في معرض جنيف الدولي للاختراعات.
13. فهد با عشن فاز بجائزة دولة أوكرانيا على اختراعه الذي يساعد على منع التدخين في الأماكن العامة.
14. الدكتورة مناهل عبد الرحمن  أصغر امرأة في العالم تحصل على دكتوراه في الهندسة المالية من أمريكا، وعمرها 25 سنة وعلى دكتوراه أخرى في رياضيات الكم، وأخيراً قدمت نظرية معادلات لقياس المسافات بين نقطة وأخرى في الكون وبين الكواكب أبهرت بها علماء الفضاء، وقد قدمت مشروعها في 320 صفحة لوكالة ناسا، وتوقع العلماء أن تحدث نظريتها تغييرا جذريا في عالم الفضاء.
15. سمير سيف حنوني اخترع نموذجا جديدا من المضخات المستخدمة في محطات الصرف الصحي تعمل على توفير مزايا قياسية في إمكانية استخدامها.
16. محسن جبران أحمد حصل على المرتبة الأولى في مسابقة جائزة خادم الحرمين الشريفين فئة المخترعين، باختراع مكبس آلي لإنتاج منتجات إسمنتية بضغط الهيدروليك.
17.  سامح محمد الوظاف من مواليد 1981م له عدد من الاختراعات في مجال الكهرباء.
   أولئك نماذج من قافلة طويلة عبر الأزمان المتلاحقة من المبدعين اليمنيين، يأتي صاحب هذا الكتاب من بينهم قبساً مشعا وعنوانا واضحاً.

ترجمة مؤلف الكتاب برهان الدين:
   يمضي المحقق في ترجمة وافية للمؤلف العالم الفقيه الفاضل برهان الدين إبراهيم بن عمر البجلي الزبيدي، وقد اعتمد المحقق على ترجمة المؤلف لنفسه في كتابه (كشف الأسرار الغوامض...)، وقد ذكر فيها مولده في أبيات حسين الواقعة قبلي بيت الفقيه من أعمال سُرْدُد، وذلك في شهر رجب عام أربع وخمسين وثماني مائة، مبينا مراحل دراسته التي ختم فيها القرآن العظيم بمدينة زبيد، ثم يذكر أبرز مشائخه وتلاميذه، وأهم آثاره: وهي مفيد الحساب، وكشف الأسرار الغوامض في علم الفرائض، والبرهان الرائض ...، الكتاب الذي نحن بصدده.

الأجواء العلمية التي أنتجت كتاب برهان البرهان:
   ثم بدأ المحقق الحديث عن هذا الكتاب مبيناً الأجواء العلمية التي أنتجته في زمن الدولة الطاهرية ( 855هـ/ 1451م – 923هـ / 1517م) التي قامت على أنقاض الدولة الرسولية (626هـ/ 1228م – 858هـ / 1454م) وقد اعتنت هذه الدولة بالعلم والتعليم وذلك من خلال بناء المدارس التي أمدَّتها بالوقف الكثير من الأموال والمزارع، فساعدت على نهضة علمية كبيرة، وبلغ من اهتمام الحكام بالعلم ما ذكره مؤلف الكتاب العلامة برهان الدين في مقدمة كتابه أنه أكمله بأمر من الملك الظافر عامر بن عبد الوهاب  (ت 923هـ).

منهج المؤلف:
   بيَّنَ المحققُ منهجَ المؤلف في الكتاب فقال: " نهج المؤلف في كلٍّ من العلوم الأربعة: (الخطأين والجبر والحساب والأقدار) نهج المتون المختصرة، حيث ابتدأ كل علم من هذه العلوم بديباجة مختصرة بعضها حمد الله فيها وصلّى وسلم على نبيه، ثم شرع في الكلام في العلم مباشرة، كعلم الخطأين والحساب، وفي علم الجبر بدأ الكلام في ذكر السبب الداعي إلى التأليف؛ فقال: أمرني بتأليف هذا الكتاب وجمعه من الإخوان من لا أقدر على مخالفةٍ له...الخ، وفي علم الأقدار قال: هذه نبذة جمعتها ومقدمة ألفتها في أعمال الأقدار المتناسبة وألقابها ..اعلم أن الاول نسبته إلى الثاني...الخ.
   ولم يقسم أياً من العلوم الأربعة إلى أبواب أو فصول أو مسائل، بل سرد كل علم بأوجز عبارة، ليكون كل كتاب من هذه الكتب وكأنه مجموعة قواعد موجزة مختصرة مبينة في فنه، فلم يكن في الإيجاز إخلال، ولا في الاختصار إهمال.
   أما علم الفرائض الذي هو أساس الكتاب –والمكتوب أفقياً- فقد قسَّمه المؤلف إلى أبواب وفصول، وضمَّنه مسائل وفروع على النسق المتعارف عليه في علم الفرائض غالباً، إلا أن الجديد الذي جاء به المؤلف رحمه الله في هذا المجال هو تضمينه العلوم الحسابية التي لا غنى لطالب علم الفرائض عنها لتعلقها به وتعلقه بها.

تعريف بالعلوم التي احتواها الكتاب:
   عرّف المحقق العلوم الخمسة التي احتواها الكتاب التحفة، ومما جاء في تعريفاتها ما يأتي (ص 80 – 81):
1- علم الفرائض: عَرَّفَه الجرجاني في كتابه التعريفات فقال: "الفرائض علم يعرف به كيفية توزيع التركة على مستحقيها".
2- علم الخطأين: من فروع علم الحساب وهو علم يتعرف منه استخراج المجهولات العددية إذا أمكن صيرورتها في أربعة أعداد متناسبة، ومنفعته: نحو منفعة الجبر والمقابلة إلا أنه أقل عموماً منه وأسهل عملاً.
3-  علم الجبر: هو من فروع علم الحساب لأنه: علم يعرف فيه كيفية استخراج مجهولات عددية بمعادلتها المعلومات مخصوصة على وجه مخصوص.
4- علم الحساب: هو علم بقواعد تعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة من الجمع والتفريق والتصنيف والتضعيف والضرب والقسمة والمراد بالاستخراج معرفة كمياتها.
5- علم الأقدار المتناسبة: هو العلم الذي ينظر في المقادير المتناسبة، مثاله: أن الأربعة المقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع، وأمثال ذلك وهو من العلوم الهندسية.  

عمل المحقِّق:
   بيَّن الأستاذ العرشي طريقته وعمله في التحقيق، وكيف وصلت إليه مخطوطة الكتاب بتصويرها من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء بعد تحقيقه لكتاب الإعلان... وقد بحث عما يشبهه من الكتب فوجد إشارات إلى برهان الدين بأن له مؤلفاً على طريقة عنوان الشرف الوافي... فبحث عنها ثم بدأ في تحقيقها وفقاً لشروط التحقيق العلمي المتعارف عليه من الكتابة والتوثيق والإحالات وغيرها، وقد وصف المخطوطة الأولى والتي رمز إليها ب (أ) بقوله: " نسخة خزائنية حصلت عليها من دار المخطوطات اليمنية بصنعاء... ناسخها المؤلف نفسه، ونوع الخط نسخي ممتاز مشكول في الكثير من الكلمات، عدد صفحاتها، 112،في كل صفحة 17 سطراً، وتاريخ نسخها ذي القعدة سنة 920هـ، وأما المخطوطة الأخرى التي للمقابلة وقد رمز إليها بالرمز (ب)، فهي كما يصفها: "نسخة خزائنية حصلتُ عليها من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء التابعة لوزارة الأوقاف، وناسخها مجهول، بخط نسخي جيد، عدد صفحاتها (105) صفحة، الصفحات من 1 – 22 بمعدل 24 سطراً في الصفحة، ومن 23 إلى آخر الكتاب ضبطها على 17 سطرا في كل صفحة، تاريخ نسخها الجمعة لسبعة خلت من شهر رجب الحرام سنة 1285هـ" وقد صور الصفحات الأولى والأخيرة لكل مخطوطة وأوردها في الكتاب (ص 88- 91).
   ومما وضّح فيه عمله في المخطوط: المقارنة بين المخطوطتين وإثبات الفوارق بينهما في الهامش، وتنزيل الأعمدة الرأسية بشكل أفقي أسفل كل صفحة وكلاً بلونه (الأحمر، والأزرق، والأخضر، والبنفسجي) -على التوالي-، ومن ثم جمع كل لون على حدة حتى أضيفت جميعها في آخر الكتاب وسميت بالترجيعات. 

دعوة للقراءة والاهتمام:
   وفي ختام هذا العرض والتوضيح لهذا الكتاب البديع والدرة الثمينة والسفر النفيس نود الدعوة إلى إقامة ندوة علمية – على الأقل- في جامعة من جامعاتنا الحكومية أو الأهلية الكثيرة، والتي ربما غدتْ غثاءً كغثاء السيل أو أنها في أحسن أحوالها قد تحولت إلى مدارس لتعليم الكبار، تعلِّمهم فنون الاستظهار والحفظ والتلقين مع قليل من التجهيل بالإذعان لسوط الشهادة، والبعد عن صوت العلم الحقيقي، وعليها أن تنطلق للمجتمع وتكون رائدة التنوير فيه لا أن تظل حبيسة همومها التي تتفاقم بسبب الحزبية والانشغال بما لا طائل تحته ولا وراءه ولا أمامه.
   وندعو بدورنا طلاب العلم الجادين، والباحثين المنقبين والمطلعين، وعلماءنا المتميزين إلى الاهتمام بمثل هذه الجهود دراسةً وتنقيباً وتعلُّماً وتعليما فهم أولى بذلك وبخاصة أنهم الأقدر على البحث العلمي والدرس الأكاديمي – بحسب اعتقادي-، وربما يجد الكتاب من خارج اليمن من يهتم به ويتناوله بالدرس والعرض والرعاية والاهتمام، ليحلو في عيون أبناء جلدته فيما بعدُ، وبخاصة إذا ما علمنا أنَّ محققه راهبٌ كبير في محراب العلم منقطع للاشتغال به لا وقت لديه يضيعه، ولا مؤسسة تتبعه لتدعمه أو على الأقل لتشكره على صنيعه، وهو لا يلتفت إلى أحد، ولا ينتظر شكرا من أحد سوى العلم وميدانه، والمعرفة وآفاقها؛ حيث نذر نفسه لها بكل ما أوتي من جدٍّ وعزيمة، على الرغم من وهن العظم، وتداعي الصحة – أطال الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية- لكنه يحمل روحاً سامقة وهمةً يغبطه عليها شباب الشباب، فلله دره، وعلى الله قدره ومثوبته وعونه، وجزاه الله عن تراث اليمن وإنسانها قديماً وحديثاً خير الجزاء، ولمثله ومثل صنيعه هذا تقف الحروف خجلى والبيان مقدِّراً ومبجِّلا.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق