الأربعاء، 7 يناير 2015

التعريف بكتاب (تُحفةُ الوُزراء)... من الفقه الدستوري والسياسي في الإسلام



من الفقه الدستوري والسياسي في الإسلام
التعريف بكتاب  (تُحفةُ الوُزراء)
تأليف/ الثعالبي (350-429هـ /961-1038م)

 إعداد/محمد محمد عبدالله العرشي
المقدمة:
أخي القارئ الكريم.. يسرني أن أقدم لك في هذا العدد من صحيفة الثورة الغراء كتاب (تُحفة الوزراء) تأليف عبدالملك أبو منصور الثعالبي، وأُهدي هذا المقال إلى رجالات السياسة في بلادنا، ولا سيما أصحاب القرار منهم، لعلهم ينتفعون بقراءته أو يرجعون إلى أصل الكتاب ليتعلموا منه الفقه السياسي أو الفقه الدستوري في الإسلام ولا سيما فقه تشكيل الحكومات وواجبات ومهام رئيس الوزراء وعلاقته بالمسئول الأول في الدولة سواءً كان رئيساً للجمهورية أو ملكاً أو سلطاناً أو حزباً، ولا شك أنهم سيجدون فيه الكثير من الوصايا والمقترحات لمعالجة الخلل في أداء الحكومات، وسيجدون في هذا الكتاب الكثير من المهام المتعلقة بإدارة الدولة والحكومات، وقد رأيت أن أقدم هذا الكتاب في هذا العدد من صحيفة الثورة لكثرة الرؤى حول تشكيل الحكومة  في بلادنا، وربما يتم الاستفادة منه في هذه المرحلة..
التعريف بالكتاب
تُحفةُ الوُزراء، تأليف/أبو منصور الثعالبي (350-429هـ /961-1038م)، تحقيق ودراسة الدكتور سعد أبو دية "أستاذ مُشارك، جامعة اليرموك، إربد – الأردن"، والكتاب يتألف من (115صفحة)، ويتكون من خمسة أبواب: الباب الأول في أصل الوزارة، والباب الثاني في فضائلها ومنافعها، والباب الثالث في آدابها وحقوقها ولوازمها،  والباب الرابع في أقسامها ورسومها، والباب الخامس في ذكر كفاتهم ونكت ألفاظهم وعفوهم ومدائحهم.
الباب الأول
بدأ المؤلف في الباب الأول بذكر ما أصل الوزارة ومن أين جاء اشتقاقها، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم، وغيرها من كلام العرب وأشعارهم؛ وعلى النحو التالي: قال الله تعالى في محكم كتابه، حاكياً عن نبيه وكليمه موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا* قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى*} "طه: 29-36"، ونبي الله هارون عليه السلام هو أول من تَسَمى بهذا الإسم على ما قيل، وكان يُنُوبُ عن أخيه نبي الله موسى عليه السلام في كثير من أمور مُهِمَّات بني إسرائيل، ولذلك استخلفه عليهم حين خرج إلى الميقات.
وذكر الثعالبي أن ملوك الفرس واليونان والهند كانت تتخذُ لدولها الوزراء، ولهم في ذلك أوضاعٌ وقوانينُ، ولهم فيها سماتٌ بلغاتهم.
وفي أصل اشتقاق اسم الوزارة أقوالٌ: أحدُها: أنه من الوِزْر: وهم الثِّقْل، لأن الوزير يحملُ الثِّقْلَ عن الملك (أو الرئيس أو السلطان أو الإمام المُكلِف له) الموزور له، ومنه قول الله تعالى: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} "طه:87"، أي: أثقالاً من أمتعتهم وحُلِيَّهم، وقال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} "محمد:4"، أي: سلاحها، وتقديره: حتى يضعَ أهل الحرب سلاحهم، لأن السلاح يحمله المحاربون فيُثقِلُهم حملهُ.
وقد استشهد الثعالبي بقول الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها


رماحاً طوالاً وخيلاً ذُكُورا

ومِن نَسجِ داود يُحدَى بها


على أثَرِ الحيِّ عيراً فَعِيرا

 وقيل: إنه مشتقٌّ من الإعانة، لأن الوزير يُعِينُ الملكَ على ما هو بصدده من أعباء السياسة، ومنه قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*} "طه: 29-31"، أشتَدُّ بمعونته ومساعدته، وقال تعالى: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} "القصص:35". وقوله: { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} "الفتح:29"، ومعنى "شطأه" صِغاره التي تنبت حولَ أُصوله، وقوله: "آزره" أعانه بصغاره وفراخه.
وذكر الثعالبي أن الوزارة هي كلمة فارسية معربة وأصلها معربة من الزُّور، والزُّور عندهم اسمٌ للشدة والقوة، فاستُعير وعُرِّب، والمعنى فيه: أنّه يَشُدُّ من صاحب الدولة ويقويه، ويعينه على ما هو بصدده.
والأظهر أنه من المساعدة والإعانة، هذا قد روي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً – أو قال: بالأمير خيراً – جَعَلَ له وزير صِدقٍ، إنْ ذَكَرَ أعانه، وإن نَسِيَ ذَكَّره، وإذا أراد به غيرَ ذلك، جعل له وزيرَ سوءٍ؛ إن نَسِيَ لم يُذَكِّرْه، وإن ذَكَرَ لم يُعِنْه". فأما اتخاذُ الملوكِ والوزراءَ، فلم تزل ملوك الفرس تنتخب الوزراءَ وأهلَ المشورة والتدبير، وقَلَّ ملكٌ من من عظماء ملوكهم، إلا وكان له ثلاثة وزراء وأكثر من سبعة وعشرة، وكذلك ملوكُ الهند يقولون: أقلُّ ما ينبغي أن يكون للملك (أو الرئيس أو الحزب أو...) أربعةُ وزراءَ.
وذكر الثعالبي أن أنو شروان كان يقول: لا يستغني أعلمُ الملوك عن الوزير، ولا أجودُ السيوف عن الصِّقال، ولا أكرمُ الدواب عن السوط، ولا أعقلُ النساء عن الزوج. ولمكانة الوزراء من الأمراء، ومشاركتهم إيّاهم في الأمور، وتصريف أعِنَّةِ التدابير، جرى في المثل السائر على وجه الدهر: لا تَغتَرِرْ بكرامة الأمير، إذا غشّك الوزير.
فصل في الوزير الصالح
ذكر (الثعالبي) مؤلف هذا الكتاب في هذا الفصل ما يجب أن يكون عليه الوزير من صفات، وما يمتلك من أساليب وقدرات تمكنه من القيام بعمله على أكمل وجه.. وذكر ذلك بقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بملكٍ خيراً، قَيَّضَ له وزيراً صالحاً، إن نَسِيَ ذَكَّرَه، وإن نوى خيراً أعانه، وإن أرادَ شرًّا كَفَّه".
واجتمعت الآراءُ على أنه ينبغي أن يكون وزير الملك (أو الرئيس أو السلطان أو الحزب) يجمع بين الأصل والفضل، والقول الفصل، والأدب الجزل، و الرأي الثاقب والتدبير الصائب، ويرجع إلى نفس أمَّارة بالخير، بعيدة عن الشر، مداولةٍ على سُبُل البِرِّ، ويجمع أدوات السيادة، وآلات الرِّياسة، بمحبةٍ يطبق بها قلوب العامة بعد الخاصة، ويرجي أيامه بين نصح يؤثره، وجدٍّ في مصلحة المملكة يستعمله، وجهد في التقرب إلى سلطانه يتحمَّلهُ، ويخلص على النقد والتمييز، فإذا اجتمع الملك الفاضل، والوزير الصالح الناصح، فاعلم بأن المملكة تكون ساكنة هادية، وأحوالها وأعمالها على النظام جارية، والرسوم الجميلة راتبة، وطرق التجارات آمنة، والأسعار  منحطَّة، وثغور الخير مبتسمة، ونفوس الرعايا في ظلال السكون وادعة، وفي رياض الأمن راتعة.
الباب الثاني (في فضائلها ومنافعها)
في هذا الباب أراد الثعالبي أن يظهر فضائل الوزارة ومنافعها للملك أو الرئيس أو ولي الأمر وكذا للرعية في نفس الوقت، فالوزارة إذا صلحت نمت وتثمنت العلاقة بين ولي الأمر والرعية، وكان ناتج هذه العلاقة رخاءً وسؤدداً ونماءاً وتطوراً للوطن وقاطنيه.. فبدأ كلامه: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}"الفرقان:35"، خرج هذا مخرج الامتنان في جواب سؤال موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًامِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} "طه:29-32"، فالوزير مُعِينُ الملك وظهيرُه، ومدبِّر أمره ومديرُه.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بالأمير خيراً، جعل له وزيراً صالحاً"، ويُروى: "وزيرَ صِدقٍ، إن ذَكَر أعانه، وإن نَسِي ذَكَّره، وإن أراد به سوءاً، أو قال غير ذلك جعل له وزيرَ سَوءٍ، إن نسيَ لم يُذَكِّره، وإن ذكر لم يُعِنه".
ومما قرأت في وصايا الفرس، عَهِدَ بعض الملوك إلى ولده، فقال: يا بنيَّ، إنك لن تصل إلى إحكام ما تريدُ من سياسة العباد، وضبط البلاد، إلا بمعونة الوزراء، فأَعِنْهم على طاعتك بحسن مباشرتك، وجميل مكافأتك، وعلى معونتك بمساعدتك لهم بما يُغْنِيهم عن غيرك.
وقال كِسرى قُباذ: الوزير من الملِك (الرئيس أو السلطان) بمنزلة بصره وسمعه وقلبه ولُبِّه، لأنه مغلق الأبواب، مُتَوارٍ عن الأبصار، فيجب أن يكون محفوظاً ملحوظاً، وعليه أن يَحفَظَ مصالح الدولة، وضوابط المملكة، لتبقى على حسن نظامها، وجمال رَوْنَقها، ويدفع عنها الآفات العارضة التي ربما أدَّت إلى فسادها، كالطبيب الحاذق، فإنه يشتغل بحفظ الصحة ثم بمداواة ما يَعرِضُ المجسد من خَلَل.
وقال الفضل بن سهل مثلَ الملك العادل مع الوزير الفاضل، كالنهر العظيم الذي مشارعُه تسهله، ومَثَلِ الملك الصالح مع الوزير الطالح، مصل النهر العذب الطيب الصافي فيه التماسيحُ، لا يَنتفع به المنتفع إلا نادراً على وَجَلٍ، وكذلك الحديقة المُونِقة فيها الأسدُ.
وقال أرسطا طاليس: قد انتخب الإسكندرُ سبعة وزراء يصحبونه في سفره، ويتكلَّفون مصالح أمره، وقال لهم: إن الملك قد أَشرَكَكم في ملكه، فأديموا النعمة عليكم بنُصحه، فارفعوا دعائم الملك، وثبتوا قواعدَه، وحَصِّنوه بالعدل، وزَيِّنوه بالفَضل، وأَصلِحوا الخَلَل قبل أن يُعجِزَكم إصلاحُه، وانتهزوا الفرص قبل فواتها، وكيف ما كان، فأنتم شركاءُ الملك، فإن ربحتموه ربحتُم، وإن خسرتموه خسرتُم، فاعملوا لكم ولغيركم، والله موفِّقُكُم. وبهذا من الكلام الجامع للفوائد الجَمَّة، والنصائح التامة.
الباب الثالث (في آدابها وحقوقها ولوازمها)
أظهر الثعالبي في هذا الباب آداب الوزارة وحقوقها اللازم اتباعها عند اختيار الوزير، فهو يرى أن هناك آداب يجب توفرها في من يُختار لهذا المنصب. فقال تحت عنوان هذا الباب: أن يُختارَ للوزارة من اجتمعت فيه الأخلاقُ الحميدة، والأفعال الرشيدة، وعُرِفَ بالآراء السديدة، وجَودَة التدبير، وصواب الآراء المفيدة، فتكون فيه العدالة والنزاهة والشجاعة والسياسية، وإذا كان زمن الفتن والحروب، يصلحُ أن يكون شجاعاً صارماً، قال بعض الفضلاء: شرائطُ الوزارة خمسة:
الأول: العدل: ليكون منصفاً في حكمه، وتَسْلَم الرعية من ظلم غيره وظلمه.
الثاني: الأمانة: ليفيَ ما عليه: وستوفي ما لَهُ، ولا يختزِنْ لنفسه فتَسِر عُمَّالُه بسيرته.
الثالث: الكفاءة: وهي العلم بالأعمال الدِّيوانية والتصرفات، ووجوه تثمير الأموال والاستخراجات، فيضع الأمور في مواضعها، ويرتب الأعمال على قواعدها.
الرابع: السياسة: فيعرف مداراةَ الجند وتأليفهم، وجمعهم وتفريقهم، ويكون خبيراً بالمكايد الحربية، والخداع، وحِفظ البلاد والثغور والقلاع.
الخامس: أن تجتمعَ فيه الخشونة واللطف، فيخشُن على القوي حتى يُلِينَ عريكتَه، ويَلين للضعيف حتى ينال من الإنصاف بُغْيتَه، ويكون بذلك مِقداماً على المخاوف، جسوراً على الأهوال إن اضطُرَّ إليها، محجماً عن التقريرات إن مَنَعَ الرأيُ السديد عنها.
وقال بعض الحكماء: إذا رأيت الوزير يجمع المال لنفسه، فأَبْعِده، فلا خير فيه، لأن حُبَّ المال يغطي على العقل، ويمنعه عن مشاهدة المصالح، وإذا رأيتَ الوزير الصِّيت والذِّكر لنفسه مع إهمال جانب الملك، فلا خيرَ فيه، فإنه قد كَفَرَ نعمة الملك، وهو السبب فيما نال من ذلك.
فصل في حق (الرئيس) على الوزير وحق الوزير على (الرئيس)
جُملة ما يلتزم الوزراء من الحقوق لملوكهم ثلاثة: الإخلاص في النصيحة، وبَذل الجهد في إقامة صحة المملكة، ودَفع الآفات عنها.
وأما تفصيل ذلك، فهي حقوق متعددة: منها مستحبَّة، ومنها متأكّدة، أولها الإِخلاص في النصيحة والوُدِّ، فلا يُضمِر لع غشاً، ولا يَدَّخِر عنه مالاً ولا نفساً، ولا يداجِي عليه عدواً، ولا يطوي عنه نصيحة يحتاج إلى إِعلامه بها.
ومنها إظهار محاسنِه إِن خَفِيَت، ونسبة أفعال الخير إليه، وستر مساويه إِن ذُكِرت، وتتبع من يخالف ذلك حتى يُزِيلَه عنه، إما بقَمع، أو بإِحسان.
ومنها التواضعُ  له، والإِجلال لقدره في الحضور والغَيْبة.
ومنها تنفيذ أوامره بعد أن يتأمَّلَها، فإن رأى خللاً سَدَّه، أو خاف مكروهاً سعى في إزالته، والأدب في ذلك أن يجيبَ بالسمع والطاعة، ويوقف الإِمضاءَ بنوع من التعاويق، ثم يراجع الملك على خَلوة، فإن تعذَّر، فبمكاتبة، ويوضح ما ظهر له من الرأي وما يخشاه من الخلل، ثم يعمل بما يوافقه عليه ويقرِّرُه معه.
قال أفلاطون: أول أدب الوزير وسياسته: أن يَتأمَّل أخلاق الملك، فإن كانت شديدةً، عامل الناس باللطف ولِينِ الجانب، وإن كانت لَيِّنةً، عاملهم بقوة وصرامة غير مُفرِطَة، ليعتدل التدبير.
ويقال: إن معاوية كتب إلى زياد: ليكن بيني وبينك في سياسة الرعية شعرةٌ ممدودةٌ، إن شددتُ طرفها فأرخِها. وإن أرخيتُ طرفها فاشدُدْها، فإنَّا إن شَدَدْنا جميعاً انقطعت.
وسبب هذه الرسالة: أن بعض أمراء العرب نَقَمَ عليه معاويةُ، فأبعده، فسار إلى زيادٍ فقَبِلَه وأنزله، ثم خاف من إنكار معاوية عليه، فَبَعَثَ يستأذنُه في أمره، فأجابه بذلك الجواب.
ومنها تعجيلُ عطاياه وأوامره، سيَّما إذا علم اعتناءَه به أو تأكيده الوصية في حقِّه، وكذلك يجي تعجيلُ ما يطلق لولاة الثُّغور والحروب والغيوج (الذين يحرسون) والرسل، فإن هذه أمورٌ إن أُخِّرت عن أوقاتها، كَثُرت مضارتها، والملوك تغضبُ لرَدِّ أوامرها، وتوقيف أُعطياتها وهباتها، إلا إذا كان الوزيرُ ممَّن قد فَهِمَ أن مراد الملك التوقُّفُ فليُمْطِل، ولا يُشعِر أحداً أنه رأي الملك، فإنه لؤم لا يُنْسَبِ إليه.
ومنها السعيُ في عمارة البلاد، وإصلاح خَلَلها، وتثمير الأموال والمزروعات وتحصيل آلات العِمارة، والترغيب في ذلك، فإن بالعمارة تَعْزُزُ الأموال، وبالأموال تِشْمَخُ الممالك، وتكثر الأعوان.
فصل في حق الوزراء على (الرؤساء)
وأما ما ينبغي للملك أن يَعتمدَ في حقه، وهي من الحقوق السياسية المصلحةُ على المُلك: فمنها أن يمكِّنَه من التصرف، ويحكمه في التدبير إن كان وزيراً مطلقاً، حتى تنفذ تصرفاته، وتستقيم سياسته.
ومنها أن يَرْفَع من قدره، وينوِّه باسمه، بما يتميَّز عن أبناء جنسه بتشريف في ملبسه ومركبه وموكبه ومجلسه، وفي تلقيبه وتكنيته على ما تجري به عادةُ اصطلاح أبناء الزمان.
منها أن لا يَسمَعَ فيه كلامُ الوُشاة والمتعرضين، فإنه مقصود ومحسود، والحَسود لا يُبقي ولا يَذَرُ، بل يجب بأن يعرض له بما بلغه عنه بما يكرهه أو لا يستصوبُه، فإن كان صحيحاً، اعتذَرَ ولم يَعُدْ، وإن كان كذباً وتمويهاً، بَرْهَنَ عن نفسه ليزول الشك فيه.
وقال بعضُ حكماء الفُرس: على الملك لوزيره أربعةُ حقوق: لا يؤاخذُه بغير حق ثابت، ولا يَطمَع في ماله بغير خيانة، ولا يقدم عليه مَنْ هو دونه بالكفاية، ولا يمكِّنُ منه عدواً. ومنها المَشُورة في الأمور، فهي وإن كانت مشتركةً بين العقلاء، إلا أنها بالوزراء ألزم...
فصل في الخصال التي ينبغي أن تجتمع في هذا الوزير مع ما تقدم وصفُه من الشرائط والآداب
يحتاج أن يَجتمعَ فيه مع الإسلام والبلوغ والعقل شُروط العدالةِ، ويتحاج مع ذلك أن يكون موصوفاً برزانة العقل، وجَوْدة الآراء، والمعرفة بالسياسة، لا تَبْهَرُه الأمور، وإن عَظُمت، ولا تُدهِشُه الآراء والأعمال إذا تكاثرت، وليكن فيه الثباتُ والوَقار والنهضة والتنفيذ والتقرير، كما قال الشاعر:
بَديهتُه وفكرتُه سواءٌ


إذا اشتَبَهَتْ على الناس الأمورُ

وأحزَمُ ما يكونُ الرأيُ منهُ


إذا أعيا المشاورُ والمُشيرُ

ومن حق هذا الوزير أن يُعتَنى بأمره، ولا يُعزل إلا بحادثة تُخِلُّ بالتصرف، أو خيانة تثبت، وإذا ولَّى الإمام والياً على عمل، كان الثابتُ أسبَقَهما، وإن كان الإمام على علم بذلك، ثمَّ وَلَّى، فهو عَزْلٌ لذلك الوالي، وتقليد لمن ولاَّه بعده، وهو المستقر.
وقال بعضُ العلماء، لا ينعزل الأول إلا بتصريحٍ بالعزل. وقال بعضهم: إن كان العملُ مما يحتمل الاشتراك، أُشرِكَ بينهما، وإن لم يحتمل، بقي موقوفاً على صريح العزل أو التقرير.
فصل في كتمان الأسرار وكيفية المشورة
ينبغي للملك إذا استشار في مُهِمٍّ أن يفردَ مع كل مشير على حِدَة، ويسمعَ ما يشير به، ولا يحدِّث به الآخر، فإذا اجتمعت الآراءُ مَحَّصَها اختباراً، ونقَّحها اختياراً، واستخار الله تعالى في أحدها، ثم جمع الجماعة وفاوضهم في جميع ذلك، ولم يعيَّن لهم أصحاب الآراء، ثم فاوضهم فيما تَرَجَّح عنده حتى يتفق معهم عليه، فإن خالفوه استشارَ غيرهم، فإن خالفوه وافقهم، إذِ الجمعُ من العقلاء أبعدُ عن الخطأ من واحد، وإذا عارضهم في رأيه معارِض، فلا يجيبه بالرد أو بمعارضةٍ، بل يستوضح منه ويُمْعِنُ النظر، فإن الفكر والتأنِّي محمود العواقب..
مؤلف الكتاب في سطور
المؤلف أبو منصور الثعالبي (961-1038م/350-429هـ) هو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي، وهو من أهالي نيسابور. اشتغل بالأدب والتاريخ، فأصبح من الأئمة في الآداب واللغة، وصنف كثيراً من الكتب ومن كتبه المطبوعة: (يتيمة الدهر 4 أجزاء، اللطائف والظرائف، فقه اللغة، يواقيت المواقيت، سحر البلاغة،.... وغيرها). ومن المخطوطات: (تحفة الوزراء، غرر البلاغة، أحسن المحاسن،....وغيرها).
ومن المراجع التي رجعنا إليها عند إعداد هذا المقال:  (تُحفةُ الوُزراء/ تأليف/أبو منصور الثعالبي، تحقيق ودراسة الدكتور سعد أبو دية "أستاذ مُشارك، جامعة اليرموك، إربد – الأردن"/ الطبعة الأولى1994م/ دار البشير بالأردن)،  (موسوعة الأعلام للزركلي)، (فقه اللغة وأسرار العربية/ تأليف أبو منصور الثعالبي/ شرحه وقدّم له ووضع فهارسه ياسين الأيوبي/ من مطبوعات المكتبة العصرية لبنان/ طبعة2002م).

alarachi2012@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق